جامعة الروح القدس – الكسليك احتفلت برتبة سجدة الصليب الأب العام محفوظ: معكم نصلي كي تتحقق أمنية اللبنانيين في انتخاب رئيس
احتفلت جامعة الروح القدس – الكسليك برتبة سجدة الصليب، ترأسها الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأب العام هادي محفوظ، بمشاركة السفير البابوي في لبنان المونسنيور باولو بورجيا، وعاونه فيها مجمع الرئاسة العامة في الرهبانية وأعضاء من السلك الديبلوماسي الفاتيكاني، رئيس جامعة الروح القدس الأب طلال هاشم ولفيف من آباء دير الجامعة، وخدم الرتبة الإخوة الدارسون في الرهبانية اللبنانية المارونية وجوقة جامعة الروح القدس -الكسليك بقيادة الأب ميلاد طربيه، في حضور رؤساء الجمهورية السابقين ميشال عون، ميشال سليمان، وأمين الجميل، نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، وجمع من الوزراء والنواب من مختلف الكتل النيابية، ووزراء ونواب سابقين، إضافة إلى مسؤولين أمنيين، ومديرين عامين، وفاعليات سياسية وأمنية وديبلوماسية وقضائية ودينية وإعلامية وتربوية واجتماعية، وأعضاء مجلس الجامعة وحشد من المؤمنين، في قاعة البابا يوحنا بولس الثاني في حرم الجامعة الرئيسي.
وبعد القراءات وتلاوة الأناجيل الأربعة، ألقى الأب العام محفوظ عظة قال فيها: “مشهد ليس كسائر المشاهد، فهو يسلك الدرب مباشرة الى القلب، وهناك، في القلب، تقف أمامه بانحناء. مشاعر التأثر والانذهال العميقين. إنه مشهد يسوع المعلق على الصليب الذي يطبعنا، بشكل مؤثر ومذهل جدا. إنه مشهد ليس كسائر المشاهد لأنه يخبر عن حدث جرى مرة واحدة في التاريخ، ولكن مفاعيله تتخطى كل زمان ومكان. هو مشهد ليس كسائر المشاهد لأن كلا منا يستطيع قراءة وجوده ووجود الآخرين، على ضوئه. كم توالت أجيال من المؤمنين تأملت فيه، خصوصا في يوم الجمعة العظيمة”.
وأضاف: “اليوم نتأمل في هذا المشهد بشكل مميز، فيبدأ كل منا النظر والسماع، النظر إلى يسوع المصلوب، وسماع صوته في الكلمات التي لفظها على الصليب: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟”. هو مشهد ينبهنا ألا نبقى خارجه، متفرجين. فسرعة جري الحياة، أو الروتينية التي قد تضرب البعض منا عند الاشتراك في الاحتفالات الدينية والاجتماعية، أو مظهر عبثية أحداث الحياة في بعض الأوقات، قد تدفع البعض الى عدم التفاعل مع هذا المشهد الوجودي الذي باستطاعته تغيير حياتنا إن نحن نظرنا اليه جيدا وسمعنا جيدا الرسالة التي يوجهها الينا.
إنه مشهد يعني الله ويعني كل إنسان، يعني كلا منا مباشرة. لذا، نريد أن نشترك فيه، أن ندخل في منطقه، فنفقه سر السماء، ومنطق السماء، يلاقي منطق الأرض، على الصليب بالذات. عندها نفهم أن أمور السماء هي هنا على الأرض، وأن ما نعيشه على الأرض مرتبط كل الارتباط بعلاقتنا بالسماء”.
وتابع: “منظره، منظر يسوع المصلوب، هو منظر البائس، الضعيف، المجروح، المهان، المتروك في أيدي الظالمين، الصامت كل الصمت. ابن الله تضامن معنا في تجسده وفي كل ما عمل على أرضنا، وهو وصل الى التضامن الأقصى، حين بلغ أحط درجات عيش الإنسان، في هذا النوع من الموت. وإلى منظره، يضاف صوته. إنه صوت صراخ البائس الذي لا نصير له والذي لم يعد يجد أي سبيل للخلاص الا بالصراخ. فمن كلمات يسوع القليلة على الصليب، كان صراخه: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” في هذه العبارة التي أطلقها يسوع، تبان لنا ثلاثة أمور: أولا، شعر يسوع أنه وحيد، عرضة لعنف لا رادع له ولا حدود؛ هو أحس أنه متروك من قبل الله، الله المعروف بقدرته الخلاصية، الله الذي كان قد ناداه في بدء آلامه: “أبا أيها الآب، أبعد عني هذه الكأس … ولكن لتكن مشيئتك”. هنا، قال له: لماذا تركتني؟ ويزداد الشعور بغياب الله ثقلا، عند التنبه الى تعاظم ظلم الساخرين والمعيرين. ثانيا، تساءل يسوع عن السبب معلنا الحيرة الكبيرة والمربكة، تجاه هول ما يعاني منه؛ قال: لماذا؟ لماذا تركتني؟ ثالثا، هو نادى الله: إلهي إلهي، أي إنه في خضم وعيه بؤسه وشقاءه وعزلته، وفي خضم حيرته، لم يقطع العلاقة مع الله ابيه، بل توجه اليه بهذه الصرخة المدوية: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ هي إذا عبارة تعلن التمسك بالإيمان، فيما يتبين الإنسان بؤسه وشقاءه الشديدين وفيما يتساءل بحيرة عما يجري معه وعن عزلته. عندما نادى يسوع اللهَ: إلهي إلهي، أعلن أن علاقة الإنسان بالله هي حالة دائمة، فيما الشعور بأن الإنسان متروك من الله (لماذا تركتني؟) هو حالة مرحلية. أليست هذه العبارة عبارة كل منا في كثير من محطات حياتنا، حتى ولو لم نَبُحْ، ربما خجلاً، بها؟ أليست هذه العبارة عبارة كلٍ منا، نحن في لبنان؟ هذا دليل ساطع على تضامن يسوع الكامل والكليِ مع كل إنسان، مع كل منا، ودليلٌ على أن مشهد يسوع المصلوب هو مشهد ليس كسائر المشاهد”.
وشدد الأب العام محفوظ على أنه “بعد اكتشافنا أن حالة يسوع تشبه حالتنا مرات عديدة، نحن نتذكر أيضا، من خلال هذا المشهد، حالة كل بائس في الحياة، كل فقير وكل معوز. ولكن الشقاء لا ينحصر في نقص الخيور المادية، بل إننا في يسوع المصلوب نرى جميع “جرحى الحياة”، كما كان يسميهم البابا القديس يوحنا بولس الثاني. نحن نرى أيضا كل من طالته مشكلة صحية، أو معنوية، أو نفسية، أو روحية، أو مشاكل متنوعة، أو ظلم متجبر أو تعنيف من هو أقوى، أو الألم ألم يأت من مرض انسان عزيز علينا او من موته، أو ما شابه كل ذلك”.
وأشار إلى أنه “في يسوع المصلوب نحن نرى أيضا كل مجتمع فيه حروب أو مشاكل كبيرة وعميقة. نحن، بالأخص، نرى في المصلوب لبنان واللبنانيين. إذ إن لبنان فقد الكثير من بهائه الذي اعتدنا عليه، تماما كما المصلوب الذي لا لون له. وها اللبنانيون يعانون الكثير الكثير. الجميع يتحدث عن الحالة المزرية التي وصلنا اليها، وكأننا بالفعل معلقون على الصليب، فنود الصراخ: الهي الهي لماذا تركتني؟ ولكن لبنان لا يتفرد بالمصاعب، بل إن حروبا تجري هنا وهناك على وجه الأرض، وفي جميع الأحوال ينال كل مجتمع نصيبه من المشاكل، مهما كان ظاهره ورونقه بهيين، إذ إن القلق والشقاء يسكنان في كل مجتمع، لا بل في حياة كل إنسان، ولكنهما يلبسان في كل مجتمع، وعند كل إنسان، حلة مختلفة”.
واعتبر أنه “إزاء المشهد القاتم الذي نتيقنه، نبقى عارفين حق المعرفة نهاية قصة الصليب والموت. إنها القيامة. الصليب ليس النهاية وفي طياته تنجلي القيامة. أول البارحة، في تعليم الأربعاء، قال قداسة البابا فرنسيس متكلما عن الرجاء بعد الصليب: “في ذهن التلاميذ بقيت صورة ثابتة، صورة الصليب. هناك كانت نهاية كل شيء. لكن هناك، سرعان ما اكتشفوا بداية جديدة في الصليب … هكذا يبرعِمُ الرجاءُ في الله، يولد، ويولد من جديد في الأنفاق السوداء لتوقعاتنا التي فشلت” (البابا فرنسيس، تعليم الأربعاء 5 نيسان 2023).
هذه هي قصة الصليب: بؤس شديد وعنيف مع رجاء عميق لا يتزعزع ويولد السلام للذات، إذ إن الكلمة الأخيرة ليست للموت ولأشكاله ولا للظلم والعزلة والوحدة والقهر. إنما الكلمة الأخيرة هي لله، لانتصار محبته ومجده في القيامة. ولا ينتصر الله وتنتصر القيامة على الموت واشكاله فقط في المستقبل، في الحياة الأخرى، بل إن هذا الاختبار ممكن أيضا في كل لحظة من حياتنا على الأرض”.
وشدد محفوظ على أن “الله يريدنا أن ننمو في حياتنا بوفرة مادية وعزة وكرامة ومجد واندفاع وسلام وفرح وهناء. يريد أن تتحقق طموحاتنا وان نكتشف أن حياتنا على الارض جميلة وحلوة. ولكن، حين تعترضنا صلبان الحياة وتحرمنا مما يريده الله لنا، يريدنا الله أيضا ألا نفقد الرجاء، بل أن نصرخ الهي الهي. هو الله الذي لا يترك أحدا”.
وأضاف: “وإذ يجعلنا يسوع نفهم عبر صليبه هذه الحقائق، يذكرنا أنه بالصليب صالح الجميع، كما تعلمنا رسالتا افسس وقولسي. إن المصالحة بين البشر هي من مفاعيل الصليب. هذا لا يعني عدم الاختلاف في الرأي مع آخرين، بل يعني حمل المحبة تجاه كل إنسان، حتى لو اختلف الرأي معه. لا يمكن لمسيحي حقيقي أن يحقد أو أن يكون سبيل حقدٍ وتقاذفِ لعنات”.
وخلص: “من كل ما سبق، نستطيع القول إن علينا قراءة واقعنا اللبناني على ضوء مشهد الصليب، حيث البؤس ممزوج بالرجاء، وحيث المصالحة الدائمة والمتجددة ضرورية من أجل عيش الرجاء والفرح والهناء. هذه المصالحة هي أولاً مصالحة مع الذات، ومصالحة مع الآخرين، ومصالحة مع مبدأ الخير العام ومع فكرة الدولة وبنية الدولة ومع المواطنية، ومصالحة مع فكرة المسؤولية في المجتمع. هي مصالحة مع الذات فيها يتيقن كلٌ منا، كلٌ منا بدون استثناء، أنه حري به، أو بها، أي بكل منا، تحملَ المسؤولية في ما آلت اليه حضارة مجتمعنا وثقافته. غالبًا ما نتقاذف الاتهامات ويكون حديثنا مطبوع بالسلبية فننعي وضعنا. وغالبًا ما نلقي اللوم على مجموعات، خصوصًا على الذين هم في سدة المسؤولية في المجتمع، وننسى أن هؤلاء هم منا، من طينتنا، من ثقافتنا، وأن مجتمعنا أنتج وصولهم الى المسؤولية. بدل ممارسات تسمرنا في جو حقد ولا تسير بنا الى الأمام، نستطيع أن نكون بنائين، شفافين، وفي الوقت عينه، شاجبين أعمال أشخاص يؤذون الخير العام، وذلك، بدون أن نستعمل لغة الأحقاد، بل نحن نشجب ونحاسب بمسؤولية من أجل انتظام المجتمع وازدياد الخير فيه، للجميع. لذا علينا التفكير، جميعِنا، جميعِنا، قبل أي أمر، علينا التفكير في كيفية تطعيم ثقافتنا، أي طريقة عيشنا وطريقة تفكيرنا التي أوصلتنا الى شبه موت، بحضارة القيامة وثقافة القيامة. لا شك في أن علينا تغليبَ فكرة الخير العام وانتظامِ العمل في الآليات في المجتمع، واحترام ِكل انسان، خصوصا الضعيف بيننا”.
وأضاف: “هي ذهنية جديدة نحن، جميعنا، بحاجة اليها. ذهنية في الإدارة والحوكمة وجودة الآليات ورسم الاستراتيجيات الإدارية، والشفافية، وحسن تطبيق الآليات المنظمة والمنتظمة. ذهنية جديدة في الانتباه الى الضعيف والى كل إنسان، بدل ذهنية الاستقواء على الضعيف ومنع تطبيق الآليات الحميدة. ذهنية تسمح لكل إنسان بالاستفادة من الخدمة العامة وفق آليات لا تحتاج “واسطة” وتدخلات مقتدر. في لبنان ديناميكية فكر وديناميكية حرية، خصوصا حرية الصحافة وحرية التعبير. هذه الديناميكية وهذه الحريات أظهرت منافعها الكبيرة في نواح عديدة. فهذه جميعها تستطيع المساعدة في تطعيم حضارتنا بما يلزم لخرق جدار ثقافة شبه الموت والانتقال الى ثقافة الحياة والفرح والهناء. هذا هو الرجاء الفعال والديناميكي الذي يعاكس منطق الاتهامات، والتباكي والتشكي والتململ. هذا ما يجعلنا نخرق موت الصليب بالقيامة، في وطننا لبنان”.
وتابع: “لذلك، معكم أريد الآن الصلاة لكي يتحقق الخير في لبنان، ولكي تتحقق أمنية الكثيرين، أي انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت ممكن. معكم، أريد التوجه الى صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى، بكل العاطفة البنوية والدعاء الطيب لكي يعضده الله في قيادة سفينة كنيستنا المارونية وفي الدور الوطني الذي يقوم به. معكم، أصلي من أجل جميع المسؤولين في المجتمعات في العالم. أصلي أيضا من أجل جميع المسؤولين في وطننا الحبيب لبنان، والكثيرون منهم أتوا في هذا اليوم المجيد، مشكورين، الى جامعة الروح القدس – الكسليك، يواصلون تقليدا عريقا شهدت له أجيال. عسى الرب يلهم جميعنا من أجل كل خير”.
وختم محفوظ: “معكم، أريد أن أجدد التأمل في يسوع المصلوب، أن أنظر إليه وأسمع صرخته على الصليب، وأتيقن سر القيامة في خضم الموت. في كل ذلك خلاص لكل متأمل، لأن مشهد يسوع المصلوب هو فعلا مشهد ليس كسائر المشاهد”.
وختاما حمل الآباء نعش المسيح وجالوا في أرجاء القاعة مقيمين الزياح.