الحرب على الصرافين جعجعة بلا طحين ……
إعلان الحرب على الصرّافين ومنصّات الصرافة الإلكترونية لم يُفلِح بعد في وقف جنون سعر صرف الدولار. وصل سعر الدولار الى نحو 11800 ليرة ليل أمس، في ظلّ امتناع عدد كبير من الصرّافين عن بيع العملة الخضراء. يحصل ذلك على إيقاع مسرحيات قضائية لم تنجح في كشف المتسبّب بانهيار سعر الصرف أو لجمه، بينما يتسبّب المسؤولون السياسيون بزيادة الهلع بتصريحاتهم، في ظلّ شكوك بلجوء صرافين إلى زيادة السعر عمداً، ليقولوا إنه لا غنى عن عملهم، وإنهم لم يتلاعبوا بالسعر في الأسابيع الماضية. كل ذلك يُهدد بخلق سوق سوداء بديلة من الموجودة سيتوافر فيها الدولار، لكن بأضعاف سعره الحالي!
أعلنت الدولة اللبنانية الحرب على الصرّافين. اجتمع القضاء والأجهزة الأمنية لملاحقة وتعقّب الصرّافين ومنصّات الصرافة الإلكترونية بتهمة رفع سعر الدولار. السبب المباشر للاستنفار المفاجئ كان بلوغ سعر صرف الدولار الأميركي عشرة آلاف ليرة. أوعز أهل السياسة لأهل القضاء والأمن، عقب اجتماع أمني اقتصادي في بعبدا، لتتحرّك الوحدات الإلكترونية في الأمن العام وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة. استُدعي عدة أشحاص يملكون منصّات لتسعير الدولار ليُطلَب منهم إغلاق المنصّات والتوقيع على تعهّدٍ بعدم تشغيلها مجدداً. غير أنّ المنصّات الرئيسية لم يتم التوصّل إلى تحديد هوية مشغّليها. وخلُصت الأجهزة الأمنية إلى أنّ مشغّلي بعضها يستخدمون برامج تشفير لإخفاء المعلومات والبلد الذي تبثُّ منه. كما تبيّن أن بعضها يعمل من تركيا ومصر وسوريا والولايات المتحدة الأميركية. وقد طلب النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات مساعدة قضائية من السلطات الأميركية تقضي بالعمل على «حجب المواقع الإلكترونية المخصصة لتحديد سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، وذلك لمخالفتها أحكام قانون النقد الوطني والقيام بمضاربات هدفها السيطرة على تحديد سعر صرف الدولار، وزعزعة الثقة بالمالية العامة للدولة اللبنانية، وإفساد قاعدة العرض والطلب عبر الغش». وقد أرفق طلبه بعناوين المواقع.
ترافق ذلك مع حملة أمنية لتوقيف عدد من الصرّافين. كل هذا لم يؤدِّ إلى لجم سعر الدولار، إنما لجم الصرّافين أنفسهم. فقد عمد عشرات الصرّافين إلى مغادرة المجموعات الناشطة على تطبيق «واتسأب» في أعمال الصرافة عرضاً للدولار وطلباً. أما كلمة السرّ فكانت: «أطلب منكم الخروج من كل المجموعات وبسرعة، وذلك بطلب من السلطات المختصة ولكم الشكر». هذه العبارة كانت كفيلة بإقفال عشرات مجموعات الصرافة وتوقف الصرّافين عن العمل، إلا أنّ ذلك لم يثبّت سعر الليرة. مجدداً، في التوقيت نفسه الذي تهاوى فيه السعر قبل أسبوع، أي بعد ظهر يوم الجمعة، بدأ سعر الدولار بالارتفاع. وقد وصل هذه المرة إلى 11800 ليرة في بعض العمليات الصغيرة ليلاً. حتى بهذا السعر، لم يكن الدولار متوفراً. إذ كان جواب الصرّافين بأن لا دولار لديهم للبيع. بقيت أسباب ارتفاع السعر في أيام العطل لغزاً لم يُفكّ بعد. إذ إنّ الأسواق مغلقة والمصارف مقفلة والحدود مع سوريا ليست مفتوحة. كما أن التبرير الذي سيق الأسبوع الماضي حيث ربط ارتفاع الدولار بطلب المصارف عليه لتأمين نسبة ٣٪ المطلوبة لرسملة المصارف لم يعد موجوداً هذا الأسبوع. فلماذا يرتفع الدولار في هذا التوقيت بالتحديد؟
يقول أحد الصرّافين لـ«الأخبار» إنّ «الدولار بلا سقف»، مبرّراً ارتفاع سعر الصرف بأنّ «الصرّافين يرفضون البيع خوفاً من الملاحقة». صرّافٌ آخر رأى أنّ الارتفاع مردّه أنّ «الطلب على الدولار تركّز في يومين فقط، جرّاء توقيف عدد من الصرّافين في الأيام السابقة، ما حال دون تأمين الدولار للعديد من الشركات»، مشيراً إلى أنّه «خلال اليومين الماضيين عاود الصرّافون العمل وعادت المجموعات إلى النشاط مجدداً»، واعتبر أنّ «توقيف الصرّافين تسبّب بردّة فعل عكسية». ويقول هذا الصرّاف إنّ تسعيرة الدولار تضعها مجموعات الواتساب تبعاً للعرض والطلب، لكون الدولار بات سلعة تكاد تكون مفقودة في السوق. وبالتالي، فإنّ المنصّات لا تضع السعر، إنما تتبع تسعير المجموعات. ويرى الصرّافون أنّ ارتفاع الدولار أو انخفاضه لا يعنيهم، لكونهم (يشترون «ممن هم تحت» ليبيعوا إلى «من هم فوق»)، مشيراً إلى وجود ربح ثابت للصرّاف مهما تأرجح الدولار.
في المقابل، يتحدث أحد مالكي المصارف لـ«الأخبار» عن «لُعبة يقف وراءها الصرّافون للإيحاء بأنّ الحملة التي شُنّت عليهم خاطئة»، معتبراً أنّ «عدم بيع الدولار من شأنه أن يتسبب بطيران الدولار». يعزز ذلك غياب أي أمل يلوح في الأفق. لا جديد في ملف تأليف الحكومة حيث تتعقّد الأزمة سياسياً، بينما يخرج وزير الداخلية محمد فهمي في مقابلة تلفزيونية ليُعلن أنّ «الأمن قد تلاشى… يعطيكن العافية». وكل ذلك يحصل على وقع الحديث عن تفلّت أمني وفوضى أهلية وجوع. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ أحد المتابعين لملفات التحقيق يرى أنّ الحملة التي تُشنّ على الصرّافين قد تقضي على السوق السوداء الموجودة، لكنها حتماً ستخلق سوقاً بديلة ستكون أكثر صعوبة لبيع الدولار وشرائه. وذلك من شأنه أن يتسبّب بندرة الدولار أكثر ويُصعّب الوصول إليه. وبالتالي، فإنّ ذلك سيؤدي إلى ارتفاع جنوني للدولار على اعتبار أنّ الاقتصاد مدولر ولا يمكن لأيّ مستورد أن يُكمل عمله من دون الحصول على الدولار.
الحملة الأمنيّة قد تُغلق السوق السوداء القائمة، لكنّها ستخلق سوقاً بديلة ترفع سعر الدولار بشكل جنوني