سياسة

حربُ الساحات وحربُ الشاشات

الوزير السابق : جوزف الهاشم

منذ أنْ كان طوفان الأقصى ، وكان الميدان من لبنان ، والناس على مدى سنةٍ ويزيد مشدودون بتلهُّفٍ إلى شاشات التلفزة .
وشاشات التلفزة إنقسمتْ إلـى مربّعات : منها جانبٌ يتابع أخبار الساحات ، وجانبٌ آخـر يتلازم يومياً مع استضافةِ الأضداد من المتحاورين والمتناظرين .
ومع أنّ بعض حلقات الحوار تضمّ مَـنْ نعتبرهم مثقّفين ، نرى كلَّ فريقٍ يحاول أن يفرض رأيـه كحقيقة مطلقة بما يُشبه العقيدة أو الإيمان ، ولا تلبث المحاورة أن تتحوَّل إلى صراخٍ ومشاجرةٍ وشتائم .
يحضرني في المناسبة قـولٌ للمحامي الراحل نجيب خلف الذي كان يردّد أنّ الشتيمة من العيار الثقيل يجب أن تكون مسبوكةً بلغة الفُصحى .
هذا يعني : لو فُرضَ على المتناظرين أن يتشاتموا بلغة الفصحى لكانوا امتنعوا عن الشتم بسبب عجزهم عن الإلمام بفصاحة اللغة .
الموضوع الذي يدور حولـه الجدَل الصاخب يقتصر على جدوى أو عدم جدوى فتح جبهة الجنوب اللبناني إسناداً لغـزة وما نتج عنها من تداعيات ، ولأنّ هذا الموضوع سيكون لاحقاً محوراً للنقاش الهاديء على المستوى الوطني ، ليت المتحاورين اليوم بلغة الشتائم والتبرُّج الفكري يتوقّفون عن فلسفة التلاعب بمشاعر الناس واستثارة الحساسيات المرهفة في هذا الظرف الخطير ، وفي الأحداث القاتلة يقتضي أن يعيش الناس قبل أن يتفلسفوا .
الكلام الآن للميدان ، والميدان غالباً ما يقلب المقاييس الفكرية والسياسية ، ويجعل توجّهات عوام الناس تميل إلى جانب المنتصر الأقوى .
أبلغُ مثلٍ ، ما شخَّصَتْهُ جريدة المونيتور الفرنسية حول مسيرة نابوليون ، عندما هـربَ من جزيرة “ألبـا” زاحفاً نحو باريس : فراحت الجريدة تتدرَّجُ في سرْدِ أخباره منذ اليوم الأول على التوالي : نـزل الوحش الكورسيكي .. ظهر النمر في الجبال ، صـار الطاغية في مدينة “ليون”، يقترب الغاصب من أسوار باريس ، وفي اليوم الأخير عندما ظهر نابوليون منتصراً ، كان الخبر : دخل صاحب الجلالة الأمبراطور باريس واستقرّ في قصره .
بين زحفِ الوحش نابوليون من المنفى ، حتى دخول صاحب الجلالة الأمبراطور قصره في باريس ، يمكن استخلاص نتائج هذه الحرب الدائرة عندنا ومن حولنا .
كنا نـودّ إرواءً لغليل المتحاورين أن نختصر حتى الآن ما آلـت إليه حرب الجميع على الجميع من نتائج وما يُحكى حولها من إيجابيات وسلبيات .
ولكن ، لأنّ لا صوتَ يعلو على صوت المعركة ، والمعركة لا تزال تسطِّـر الملاحم ، فلا بـدّ من اختصار بعض عناوينها :
تدمّرت غـزّة الراقدة على رجاء القيامة ، ولكنّ القضية الفلسطينية اكتسبت حضوراً كان راقداً …
تفوّقت إسرائيل بحرب الإبادة الهمجية ، ولكنها مُنِيتْ بخسائر فادحة على الصعيد الإقتصادي والبشري والإنساني .
إستثمرتْ إيران غمار الحرب بالمراسلة ، والنفوذ الإيراني في المنطقة معرّضٌ للإنحسار .
أما في لبنان ، وهو الأمر الأهمّ ، فبالرغم من إحراق الأرض بالزيت والكبريت وتشريد الشعب بالحديد والنار ، فقد تمكّنت المقاومة الإسلامية من زعزعة هالَـةِ الجيش الذي لا يُقهر ، واستطاعت أن تضرب في الأعماق الإسرائيلية التي كانت عصيّـةً على الإستهداف .
وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ، لا يزال لبنان وحـده ، يسير على طريق القدس ويعود على طريق غـزّة ، يرشفُ مراراتِ كأس سقراط ولا يحطّمُ الكأس على شفتيه .
بعد انقشاع غبار الميدان ، لا بـدّ من أن ينصرف لبنان العقلي بكثيرٍ من الوعي والإستبصار ، إلى تقييم عوامل الحرب أسباباً ونتائج ، من دون أن يكون لكّل فريق رأيٌ بمثابة العقيدة أو الإيمان ، إلا الإيمان بلبنان .

عن جريـدة الجمهورية
بتاريخ : 15/11/2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى