الحكواتي محمد نور الدين…طائر بأربعة أجنحة بين السيرة والقصيدة التركية
بقلم// جهاد أيوب
عرفت الباحث في الشؤون التركية، والمثقف المحترم والواثق والمتواضع الزميل محمد نور الدين عبر كتاباته السياسية وبعض قصائده، ولكنني اليوم اكتشفت فيه موهبة الحكواتي الذهبي من خلال كتابه ” فاضل حسني داغلرجه – طائر بأربعة أجنحة- سيرة وقصائد عن شاعر تركي مجدد، ويكاد يكون من أفضل الشعراء في العالم…
المفاجأة كانت بإسلوب الزميل محمد، بطريقة السرد، وبساطة توصيل المعلومة التي صاغها بحكاية قلما اعتدناها إلا في موروثنا الرمصاني، أي من خلال الحكواتي الذي يتنقل بين القهاوي والتجمعات الشعبية، ونحن ندور معه ومن حوله في زواريب الأمكنة!
نعم الحكواتي محمد نور الدين في هذا الكتاب أبدع برشاقة وعلم، قدم السيرة الذاتية كما لو كان يحدثنا ونحن معه نرتشف القهوة، لم يتفلسف، ولم يبالغ، ولم ينظر، اسلوب شيق، لغة متمكنة، تبسيط الانتقال من زمن إلى واقعة، ومن واقعة إلى مرحلة، ومن مرحلة إلى عبرة، ومن عبرة إلى حكاية تصلح لكل وقت دون أن نصاب بالملل!
هذا الحكواتي المجبول بالتواضع، وبالمعلومة، لا يبخل علينا بنثر طيبه كلما التقيناه، وكلما كتب وتحدث، هو مكسبنا، وعطر اللقاء معه داخل انتظار براعم الزهرة!
ربما ينتقد من يقرأ بأنني أتحدث عن الكاتب أكثر من الكتاب الموضوع الشاعر، ولكن، وللأمانة، من يكتشف إسلوب الزميل محمد في الكتابة لا ينفك منه، ويُفرض الحديث عنه فرضاً كما شوق الطير للحرية!
الزميل محمد في هذه السيرة الحكواتية هو ذاته الشخصية الأنيقة شكلاً ومضموناً، هو ذاك الذي يختار مفرداته بعناية كما يختار مواضيعه بدقة…لا فرق بينهما وبين روحه المسكونة بالتواضع والمعرفة والتهذيب…
لقد سكب محمد نور الدين مكوناته في سيرة الشاعر التركي فاضل حسني داغلرجه، وأوضح لنا دون تعمد إنه يحب أشعاره، ويتصالح مع قصائده وافكارة، وإلا ما كانت هذه العذوبة في السرد والحكاية والسيرة، والأهم بإختيار القصائد العذبة…
كشف المؤلف محمد عن شاعر يطير بأربعة أجنحة هي الطفولة والحب والموت والله، اما الطبيعة فهي مسكنه، كل هذا جعل منه التركي الشفاف، يلعب بما يحب حتى غدت هي الموضوعات التي سكنها الشاعر داغلرجه في فلسفته ومملكته، مما ثبت موقعه المعاصر في الشعر التركي.
منذ مجموعته الثانية ” الله والولد” عام 1940 أثار داغلرجه نقاشاً واسعاً أكد ظهور موهبة مشرقة في الشعر التركي المعاصر..
جال داغلرجه في الريف، اختلط بالفلاحين وصادق الطين والأكواخ وبيوت الفقراء ورفاق القمر والمواسم والزرع فكانت كتاباته مرة،تشتاق إلى الحلم والفرح.
هو محمد فاضل، اشتهر ب فاضل حسني داغلرجه، وفيما بعد ” داغلرجه”، ولد عام 1914 في اسطنبول ضمن أسرة عسكرية تتنقل من منطقة وبلد مختلف.
كتب الشعر صغيراً، وبدأ النشر في العام 1927 لينال جائزة، وهو في الصف الثالث ثانوي عام 1933 نشر أول قصيدة في مجلة ” اسطنبول” لقاء ثلاث ليرات.
عام 1935يتخرج داغلرجه ضابطاً، صودف في يوم تخرجه أن يصدر أول مجموعاته الشعرية ” الدنيا المخططة في الهواء”… وحتى وصل إنتاجه إلى آلاف القصائد!
تحتدم الصراعات الاجتماعية في تركيا أوائل الستينيات، قرر داغلرجه النضال من أجل ارتقاء الوطن فكانت قصائد ضد الاستغلال والقمع، وخيانة الأمل…ويأخذ الشاعر إلى الدعوة نحو الحرية، من انشودة الجزائر إلى حربنا الفييتنامية، والفييتنامية العمياء … رافضاً جائزة الشعر الدولية في مدينة بتسبرغ الأميركية كأفضل شاعر، احتجاجاً على حرب أميركا ضد فييتنام!
شاعر الحرية والكوني والفلسفي هو داغلرجه، حصد العديد من الجوائز العالمية منها الأكليل الذهبي في ستروغا بيوغسلافيا عام 1974، ومبدع العام في تركيا بذات السنة…
يكتب داغلرجه الشعر في الصباح، ولا يحب أن يكون جائعاً أو متخماً، والشعر لا يكتب بسهولة وأنت متخم كما يقول.
يحب داغلرجه كل الحيوانات، ويعتبرها أمة على عكس البشر، ونحن لا نختلف عنهم بشيء، لهم لغاتهم مثلنا، لكنهم أفضل منا كما يبرر…
في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر الأربعاء في 15 تشرين الأول من عام 2008 يرحل فاضل حسني داغلرجه عن دنيانا…وقبل نشر بعض قصائده الشعرية، نختم بما قاله الكاتب محمد نور الدين عنه:” هو موهبة نادرة، غزارة نادرة، تطويع للغة نادر، لم يعرف اي تأثير أجنبي، ولا يعرف أي لغة أجنبية، قصيدته صافية ومتفردة تماماً، تتعاطى مع مختلف الموضوعات المحلية والكونية، إنه مدرسة قائمة بذاتها…”.
من قصائدة:
آثار الحب
هكذا التحم الجسدان
بظمأ
بحيث محوا بيتهما
من على وجه البسيطة
###
في هذه اللحظة
لسنا الآن سوية
كما لسنا بعيدين عن بعض
الآن نحن شكل بيضاوي عملاق
يشبه ببساطة الصِفر
###
حوار
لو أنكِ تفرّقت أجزاء
فإلى مَ تتحول
شفتاك؟
– إلى فراشة.
سوانا
لم يبق أحد في العالم
– ولماذا؟
لأن الحب لم يرتوِ بعد…
###
يقول الشاعر فاضل حسني داغلرجه: “ليس ضرورياً كل واحد يرجع إلى التراب. ان يعود الأموات إلى بلدهم ليس حتى موضوعاً للنقاش. أن يتوزع جسد الشاعر في الأرض فهذا يليق بالشعراء…هذه عادة سيئة أن نعيد جسد الإنسان عندما يموت إلى المكان الذي ولد فيه…”.