هل نحن أمام لعبة الضغوط القصوى؟
دبلوماسي غربي معنيّ بالشأن الاقتصادي في لبنان، وموجود هنا لمتابعته عن كثب، قال أمس إنه لا وجود لأي مؤشرات سياسية أو اقتصادية أو مالية تسمح بتفسير منطقيّ لما يجري في شأن سعر الدولار الأميركي. ويبدو الدبلوماسي في حالة حيرة إزاء ما يحصل. لكنه يميل إلى وجود «لعبة سياسية» تعوّد عليها اللبنانيون، من شأنها تعقيد الأزمة بغية الحصول على مكاسب سياسية.
الأمر نفسه يكرره مصرفي كبير، يقول إن حملة المصارف لجمع دولارت من السوق لأجل تغطية متطلبات التعميم 154، بلغت ذروتها نهاية الشهر الماضي، وإن حركة الأسواق التجارية لا توجب طلباً استثنائياً على الدولار من السوق، وبالتالي، هناك حالة تعطيل فعلياً لسوق العملة الأجنبية. وحجم الطلب الفعلي على الدولار في بيروت يومياً لا يوجب حالة الذعر القائمة، وليس مفهوماً ما الذي يجري خارج إطار التجاذب السياسي القائم حول الملف الحكومي.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإنّ السؤال الأهم اليوم حول ما يجري هو في تحديد المستفيد من هذه الضغوط. وتلفت المصادر الى أن هناك من يعتقد أن بالإمكان ممارسة الضغوط القصوى على الشارع بغية دفع الرئيس ميشال عون الى التراجع وتقديم التنازلات التي تناسب مشروع الرئيس المكلف وحلفائه الداخليين أو رعاته الخارجيين. ولا تعفي المصادر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من المسؤولية، وخصوصاً أنه صار يردّد أمام مسؤولين أجانب بأنه الوحيد الذي يقدر على إدارة الملف النقدي، وأن التعرض له أو محاولة أطاحته ستعقّد الأمور أكثر.
ووسط هذا الانقسام، جاءت مبادرة الرئيس نبيه بري بشأن تأليف الحكومة، وهي مبادرة حظيت مسبقاً بتوافق مع حزب الله ومع النائب السابق وليد جنبلاط، وتم تقديمها بما يسمح للرئيس المكلف سعد الحريري بتوفير أرضية سياسية تساعده على التقدم خطوة باتجاه الحل مع الرئيس ميشال عون.
رئيس الجمهورية لا يريد الدخول في بازار مع الرئيس المكلف ولا مع الآخرين. ثقته مفقودة بعدد غير قليل من اللاعبين الرئيسيين في لبنان، وهو يستشعر الضغوط الخارجية عليه أيضاً. وزاد قلقه من تصرفات مرجعيات روحية وعسكرية بدت أكثر ميلاً الى خلق أوضاع هدفها الضغط عليه، ليس لأجل التنازل في ملف تأليف الحكومة، بل للتخلي عن دوره، وبالتالي دفعه الى الخروج من دائرة القرار. ولذلك، فإن ما ينسب الى رئيس الجمهورية من «تشدد»، هو ثبات على موقف يرتبط بعوامل عدة؛ أبرزها:
أن الرئيس عون لن يقبل أبداً تكرار تجربة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي قامت بعد عام 2005 وكان عنوانها عزل الرئيس إميل لحود، والتفرّد بحكم البلاد من دون ضوابط، وهي الحكومة التي راكمت من الخسائر أكثر مما كان سائداً قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
إن الرئيس عون لن يقبل في ما تبقّى من ولايته أيّ تنازل يجعله شاهد زور، وهو يعرف ما الذي يريده «تحالف الفاسدين» في لبنان أو «القوى الخارجية» التي تريد تصفية حسابات سياسية معه ومع لبنان. وهو يكرّر بأنه لن يتنازل مطلقاً عن كل حق له بالتدخل والعمل والإشراف والرقابة.
يدرك عون أن المطلوب من أيّ حكومة جديدة المضيّ في إجراءات المراجعة والتدقيق لأجل تحديد حقيقة الخسائر التي منيت بها المالية العامة للدولة، وواقع الدين العام الداخلي والخارجي، وبالتالي فتح الباب أمام تدقيق جنائي يحدّد المسؤوليات، سواء لقوى أو سلطات أو شخصيات، ما يسمح بمعالجة قسم من الخسائر ومن الديون، ومن أجل تعديل واقع القوانين الناظمة لإدارة الدولة وللقطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وخصوصاً المصرف المركزي والمصارف. وهو يعرف أن هناك في لبنان من لا يريد أبداً حصول هذه العملية، وربما يوجد في الخارج أيضاً من لا يريد لهذه العملية أن تتمّ أصلاً
بناءً على هذه الوقائع، تصرّف الرئيس عون من منطلق التسهيل، حتى بما يخصّ حصّته وحصة التيار الوطني الحر في الحكومة. وهو لم يطلب لنفسه أكثر مما طلب الرئيس المكلف لنفسه. وهو وافق على تمنّيات حزب الله بتوفير أرضية تتيح التوافق على تأليف حكومة متوازنة سياسياً، وتتوافر فيها عناصر اختصاصية. لكنّ الردّ السلبيّ جاء من قبل الرئيس الحريري الذي ردّد أمام زواره في الأيام الأخيرة أنه لا يرى موجباً لتقديم أيّ تنازل.
الحريري لا يخفي رغبته بترؤّس حكومة لا يقدر الرئيس عون، مباشرة أو من خلال مجموعة وزارية، على التأثير في قراراتها كما كان يجري سابقاً. ويبدو الحريري، مرة جديدة، أسير حسابات لا تتعلّق حصراً بمصير الحكومة، بل بمصيره السياسي أيضاً. وكل محاولة لنفي حاجته الى غطاء خارجي هي محاولة للتعمية لم تعد تنفع مع الجمهور قبل القوى النافذة.
في غضون ذلك، أظهرت وقائع اليومين الماضيين أن هناك خللاً أكبر على صعيد أداء القوى الأمنية والعسكرية في البلاد. وأمس، تبيّن أيضاً، أن عشرات الشبان عمدوا الى قطع الطرقات في داخل العاصمة وعلى مداخلها، وتمّ حشر المواطنين وحبسهم في الطرقات، بينما اختفى رجال الجيش وقوى الأمن من الطرقات كافة، وقاموا بتسهيل عمل «قطّاع الطرق» لناحية منع الناس من العبور أيضاً، بحجّة عدم تعريضهم للأذى. وبعد تدقيق مع جهات معنية، تبيّن أن القرار واضح عند جميع القوى العسكرية والأجهزة الأمنية بعدم التدخل في الشارع. ووصل الأمر ببعض هذه الجهات الى إبداء «الاستغراب» من عدم وجود حشود كافية من المتظاهرين في الشوارع، لأن «قلّة العدد» تحرج القوى الأمنية وتضطرّها الى التدخل لفتح الطرقات، مع العلم بأن التحذيرات التي تنتشر منذ يومين في كل لبنان، تبدي خشية من تحوّل عمليات الفوضى الفردية الى حالات جماعية تقود الى ما لا تحمد عقباه