سياسة

شهيدٌ على طريق لبنان والقدس

بقلم : الوزير السابق جوزف الهاشم

رحَـل دولةُ الرئيس سليم الحصّ وهو يُغمض عيْنَيـهِ الدامعتين على رحيل الدولة …
وغاب الرجلُ الكبير “ضمير لبنان” ، وكان لم يبـقَ في لبنان لا كبارٌ ولا ضمير …
بغياب الرجال تقـزَّم لبنانُ وتمـزّق …
وبغياب الضمير تفاقَمَ الفسادُ وسَاد …
هذا الذي ارتقى شهيداً على طريق لبنان كما على طريق القدس ، والسيف موقفٌ والميدان منبـر ، ما ارتقى منصّـةَ الحكم إلاّ كان واحداً من القلّـةِ الحاكمةِ النادرة : لم يلطّخْ إصبعاً بفساد ، ولم يلطّخْ ساعداً بـدمٍ ، ولم يلطّخْ شرفَ الحكم بالحقارة .
عريقٌ في لبنانيّته ، أصيلٌ في عروبته ، عنيدٌ في مواقفه ، وَرِعٌ في إيمانـه ، جامـعٌ في وطنيته ، وهو صاحب الشعار : “وحدة لبنان تعادل وجودَه” .
عصاميٌّ هو ، لم يـرِثْ إرثَ سياسةٍ ولا جـاهٍ ولا مـال … ولم تخلـعِ الدولةُ العثمانية على جّـدهِ لقَـباً باكويّـاً ، بل بنى نفسَهُ بنفسهِ والعزمُ جامـحٌ نحو الطموح ، وليس هو من الذين يقول فيهم تشرشل : “كثيرون ارتقَـوْا سلَّـمَ المجد على أكتاف أصدقائهم أوْ على جماجمِ أعدائهم ..”
بمثل ما كان عنده من إيجابيّات ، كان عنده رفضٌ إيجابي : هو : “يرفض العنف ، يرفض سلاح الحرب ، يرفض أن ينتصرَ أخٌ على أخيه بالتقاتل ، يرفض عقوبـةَ الإعدام ، يرفض أن يُعيّنَ نائباً بعد الطائف ، ويرفض أن يتولَّى منصبَ وزيـر الدفاع أو وزير الداخلية طيلة وجـوده رئيساً للوزراء إصراراً منه على البُعْـدِ عن إدارةِ القرار العسكري(1) …”
هذه المزايا التي تحلّـقَ بها الرئيس الحص ، لم تكن مألوفةً في دولة المزرعة ، دولة ملوك الطوائف ، دولة ديماغوجية الزعيم ، والمنتفعين من حظيرة السياسة الفاسدة بالوراثة … ولهذا شُنَّـتْ عليه الضغوط .
يقول : “تعرّضتُ لعنفٍ شديد في وسطي السياسي بسبب التزام الخـطّ الذي يتعلّق بوحدةِ مؤسسات الدولة ، وشعرتُ بأنَّ الضغط من جانب أطرافٍ كانوا المحسوبين في عـداد الحلفاء(2) ..”
من خلال علاقتي الحميمة بالرئيس الحص ، عرفت كم كانت الضغوط تنهال عليه من داخلٍ ومن خارج فيصّدها بصلابة ، ولم يكـنِ التهويل بالمناصب يشكُّل مادةَ ضعفٍ لديـه ، وهو لم يسعَ إلى الكرسي بل سعى إليه ، وكان يعرف أن الذين يزحفون على بطونهم لاستجداء الكراسي لا يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم .
عرفتُ الرئيس الحص عن قـربٍ حين كنتُ زميلاً لـهُ في حكومة الرئيس رشيد كرامي ، وكنتُ إليه الأقرب كما كان إليّ ، وكان للتفاعل الصادق بيننا مفاعيلُ إيجابية على مستوى الصفّ الحكومي الذي كان يشوُبـهُ الكثير من العاهات .
وكم كان للرئيس الحص من حكمـةِ المواقف في مجلس الوزراء حالَتْ دون تأجيج المآزق السياسية والأمنية عبـر المغامرات الهوج التي كانت تعصف بالبلاد ، “وإنْ ضـاقَ المقام هنا لتعداد هذه المواقف فقد يكون لها مجالٌ آخـر” .
من المفيد ، أنْ نختار اليوم من جلائل الأقوال للرئيس الحص ما ينطبق على مأساة حالنا فيقول :
“لقد أظهرنا للعالم أنّ مجموعةَ مؤسساتٍ عندنا لا تشكّل دولة ، ومجموعةَ مناطق لا تشكّل وطناً ، ومجموعة طوائف لا تشكّل شعباً ، ومجموعة وزراء لا تشكّل حكومة ، ومجموعة زعماء لا تشكّل قيادةً ، ولا يستقيم الوضع في لبنان إلاّ عندما نبني دولـة ونكون شعباً ومجتمعاً(3)…”
مسيرةُ الرئيس الحص مدرسةٌ سياسية وثقافةُ قِـيَم ، لعلّها تكون سبيلاً إلى ما كان إسمّـه ، “الإصلاح والتغييـر” .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كتاب الرئيس الحص : عهد القرار والهوى : ص: 133 – 251 .
2 – المرجع نفسه : ص : 52 .
3 – جريدة النهار : 8 أيار 1987 .

عن جريدة الجمهورية
بتاريخ : 30/8/2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى