كتبت لارا أبي رافع في موقع mtv:
نعيش منذ العام 2019 في ظلّ أزمة لم تترك شيئًا من شرّها. ولكن، الأزمة التي بدأت بالفعل منذ 4 سنوات كانت لها مؤشّرات عدّة سبقت وقوعها ودلّت على اقتراب حصولها، إلا أنّ قلّة قليلة هي التي انتبهت ونبّهت إلى أنّنا سندخل في النفق المظلم، ويعود ذلك بالأساس إلى ضعف الثقافة المالية في لبنان.
من أبرز المؤشّرات التي كانت تدلّ على اقتراب دخولنا في الأزمة، وفق أستاذ مادة الاقتصاد خليل جبارة:
بلوغ نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي 153% في عام 2018 و155% في عام 2019.
عجز مزدوج، في الموازنة وميزان المدفوعات.
في عامي 2018 و2019، كان العجز التجاري (صادرات- واردات) من الناتج المحلي الإجمالي قريبًا من 35%، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 5 إلى 6%.
منذ 2011، شهد لبنان نموًا اقتصاديًا ضعيفًا للغاية.. أقل من 1%.
نمو صافٍ من صفر إلى سلبي في الودائع المصرفية التجارية.
انخفض دخل التحويلات من المهاجرين اللبنانيين منذ 2011.
ضعف المعرفة المالية للبنانيين
رغم هذه المؤشرات، لم يتمكّن اللبناني من التنبّه إلى الواقع الذي كان ينتظره، ولا حتى الضغط لمنع هذا المسار. ولتقييم مدى إلمام اللبنانيين بالمواضيع المالية، قام معهد باسل فليحان المالي، بالشراكة مع البنك الدولي، بدراسةٍ لوحظ من نتائجها أنّ هناك الكثير من النواقص والضعف، في ما يتعلّق بإدارة أموال الدولة وكذلك إدارة الأموال الشخصية، فحوالى نصف اللبنانيين (47%) لا يخطّطون لنفقاتهم ونحو 49.5% فقط يدركون حجم المبالغ التي أنفقوها خلال أسبوع. بالإضافة إلى أنّ نحو ثلث اللبنانيين يميلون إلى تنفيذ مشتريات ثانويّة قبل تغطية حاجاتهم الأساسيّة. كذلك، أشارت الدراسة إلى أنّ معدّل الفائدة المركّب هو أحد المفاهيم التي يصعب فهمها، بحيث نجح 22% فقط من المستطلعين في احتسابه بشكل صحيح.
وفي السياق، تؤكّد الخبيرة الاقتصادية في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي سابين حاتم، لموقع mtv، أنّ مدى إطلاع اللبنانيين على المواضيع المالية محدود، وهناك الكثير من المعلومات الخاطئة في معرفة المواطنين بالقضايا المالية العامة. ولكن، “منذ بدء الأزمة لاحظنا أنّ طلب المعلومات المالية ارتفع” تقول حاتم، مضيفة: “والمعرفة بهذه المواضع زادت خصوصًا لدى جيل الشباب الذي بات يريد فهم المزيد حول مالية الدولة وميزانيّتها وآلية المحاسبة الموجودة، كما بات هناك اطلاع أكبر على إدارة الأموال الخاصة. وفي المعهد شهدنا زيادة في الطلبات من قبل مؤسسات المجتمع الدولي والجامعات للقيام بحلقات توعوية حول مواضيع إدارة المال العام”.
دور الإعلام
يُعتبر دور الإعلام كبيرًا في التأثير على الرأي العام والمجتمع، وخصوصًا لجهة المواضيع المالية. في هذا السياق، يلفت الصحافي الاقتصادي عماد الشدياق، عبر موقعنا، إلى أنّ دور الصحافي كبير في توعية المجتمع على مواضيع الشفافية المالية خصوصًا أنّ هذه المواضيع متشعّبة والمواطنين غير مطلعين على تفاصيلها ولا يعرفون حتى أنّه يحقّ لهم الاطلاع عليها.
بدورها، تُوصّف الصحافية المتخصّصة في الشأن الاقتصادي عزّة الحاج حسن الواقع، قائلة: “هناك مواقع ومؤسسات لديها فقرات للاقتصاد إلا أنّها لا تملك أشخاصاً متخصّصين بل محرّرون يعملون على مختلف الأخبار ومنها الاقتصادية، وفي المقابل هناك مؤسّسات لديها صحافيّين متخصّصين بالاقتصاد. في المؤسسات التي لا تملك مختصّين، يُصبح هامش الخطأ أكبر ويطال أحياناً مفاهيم اقتصادية أساسية. أمّا في ما يخصّ المتخصّصين في الأمور الاقتصادية فإنّ عدداً منهم يُعاني من ضعف في الثقافة المالية والاقتصادية”. وتلفت هنا إلى أنّ هناك مجهوداً شخصيًّا على الصحافي أن يبذله في التثقيف الذاتي”، مشيرة إلى أنّ الصحافيين المتخصّصين في الاقتصاد يحتاجون أيضاً إلى دورات تدريبية تعزز الثقافة المالية والاقتصادية.
أمّا الشدياق، فيعتبر أنّ ما ينقص الصحافيين هو أوّلاً زيادة معرفتهم بتفاصيل القوانين التي تسمح لهم بالوصول إلى المعلومات بالإضافة إلى أنّهم بحاجة إلى المزيد من القوانين والحرية كي يكون لديهم المزيد من القدرة على الوصول للمعلومات حتى يتمكّنوا من إيصالها إلى الرأي العام.
المفاهيم المالية: بين لبنان ودول أخرى
أدخلت الكثير من البلدان، ومعظمها أوروبية، المفاهيم المالية في المناهج التعليمية، وتبيّن أنّ الوعي والإلمام بهذه المواضيع زاد بشكل كبير بعدما كان هناك ضعف، وأنّ الخطوة كانت ذات أهميّة كبيرة. إيطاليا مثلاً خير دليل، إذ لاحظوا أنّ أداء تلاميذ المدارس في ما يخصّ الثقافة المالية ضعيف مقارنة ببلدان أخرى.
وباستخدام البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA) لتقييم مستوى التلاميذ لاحظوا أنّ هناك تفاوتا كبيرا نسبةً لبلدان أخرى، ولذلك قاموا بشراكة مع المصرف المركزي الإيطالي ووزارة التربية ومؤسسات أخرى، وقاموا بتطوير برنامج للمدارس بالإضافة إلى تدريب للأساتذة والعمل على منصة رقمية. وبعد ذلك لاحظوا أنه خلال 3 سنوات زادت نسبة الوعي المالي بشكل كبير.
هذا بالنظر إلى التجارب الدوليّة، أمّا في لبنان فمن المؤكّد أنّه يمكن زيادة وعي اللبنانيين في هذه المواضيع عبر عدّة طرق منها نشر فيديوهات توضيحيّة على مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام أو من خلال برامج تثقيفيّة. وأكثر الطرق فعالية تبقى طبعًا، وفق ما تقول حاتم، إدخال التربية المالية في المنهج التربوي.
أهميّة التربية المالية
بما أنّ هناك عمل من قبل وزارة التربية على إعادة النظر بالمناهج، فإنّ ذلك يُشكّل فرصة لإدخال المفاهيم المالية في كافة الصفوف وألا تقتصر على المرحلة الثانوية.
في هذا السياق، تؤكّد رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء هيام إسحق، لموقع mtv، أنّه أصبح من الضروريّ مع ورشة تطوير مناهج التعليم العام ما قبل الجامعي التي يقوم بها المركز حاليًّا، إعطاء موضوع إكساب المُتعلّمين للكفايات المُتعلّقة بالثقافة الماليّة والاقتصاديّة منذ سنّ مبكرة الأهميّة المطلوبة لمُساعدتهم على تنمية مهاراتهم وسلوكيّتهم ولمواكبة التطوّر الحاصل في العالم، حيث اكتسب التثقيف المالي والإقتصادي أهميّة بارزة في المناهج التعليميّة العالميّة بهدف تحقيق النمو الإقتصادي والإستقرار المالي، خصوصًا في أعقاب الأزمة الاقتصاديّة والماليّة العالميّة التي مرّ بها العالم عام 2008، والأزمة الاقتصادية والماليّة التي يمر بها لبنان منذ الـ2019.
وتكشف إسحق أنّ المركز يعمل حاليًّا على تطوير المواضيع المُتعلّقة بالثقافة الماليّة والاقتصاديّة، إذ لحظ الإطار الوطني اللّبناني لمناهج التعليم العام ما قبل الجامعي في المسوّغ الاقتصادي، “أنّه من المُتوقّع أن يُسهم المنهاج في إعداد المُتعلّمين للتعرّف إلى واقع بيئاتهم المحليّة، ليُسهموا من خلال دراساتهم في تنمية طاقاتها. ولبلوغ هذه الغاية يحتاجون إلى فهم التغيّرات التي تحدُث في مجال العمل وأسواقه. كما تلحظ مادّة الاقتصاد وإدارة الأعمال ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة.
وتتضمّن أيضًا ضمن المعارف الأساسيّة المعرفة الاقتصاديّة، حيث لحظت هذه المعرفة النقاط الآتية:
تزويد المُتعلّمين بالمعرفة والمهارات اللّازمة لفهم دور المال في حياتهم الخاصّة والعامّة وفي اقتصاديّات المُجتمعات الراهنة من خلال ترشيد استخدامه.
تعرُّفِهم إلى الأدوات والعمليّات المُختلفة مثل الخدمات التي تُقدّمها المصارف والأسواق الماليّة.
تشريك المُتعلّمين في مناقشة حول أخلاقيّات استخدام المال بما في ذلك مخاطر المُراهنة والمَيسر وعدم سداد الديون وأساليب الاحتيال وغسل الأموال وتزويرها وتضارب المصالح والمُضاربات وسوء إئتمان المال وغيرها من المواضيع الاقتصاديّة والماليّة.
أدلّة للمواطن
إلى جانب ذلك، وفي إطار تسهيل المعلومات المالية وتبسيطها، يُقدّم معهد باسل فليحان عددًا من النشاطات المخصصة للمواطنين والشباب من أجل مساعدتهم في الوصول إلى المواضيع المالية وفهمها، كـ”أدلّة المواطن”، وأهمّ هذه الأدلّة “موازنة المواطن”، وهي وثيقة مبسّطة عن موازنة الدولة تُعطي فكرة حول أبرز الأرقام والإجراءات الموجودة في الموازنة والتي غالبًا ما يكون لها تأثير مباشر على حياته اليوميّة.
هناك أيضًا أدلّة على مواضيع الضريبة لأنّ لدى عدد من المواطنين صعوبة في ما يخصّ التصريح أو بعض الضرائب الواجب دفعها، وفق حاتم، التي تُضيف أنّه “من المبادرات المهمّة التي يقدّمها المعهد أيضًا برنامج (مالُك وما عليك) مدّته نصف يوم نستقبل خلاله طلاب جامعات وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات مع مختصّين حول مواضيع الموازنة والضرائب والمال العام وعلاقتها بحياتهم اليومية. كما طوّرنا برنامجًا تدريبيًّا قصيرًا متوفّرًا أونلاين ويُشكّل مدخلاً الى إدارة المال العام”.
إذاً، يُعتبر فهم المواضيع المالية التي تُشكّل أسس حياتنا اليوميّة، والعمل على إدخال المعرفة الماليّة في المناهج لتنشئة جيل متمكّن، أمرًا في غاية الأهمية حتى لا نكون ضحايا الأزمات والمسؤولين مجدّداً، ولتفعيل المساءلة والمحاسبة كي لا تُنهب أموالنا مرّة أخرى.