عندما تفقد اسرائيل المبادرة في الميدان ……
ابراهيم الامين
لم يكن أحد في كيان العدو يتوقع ما فعلته المقاومة في غزة. كل كلام عن تقديرات وتوقّعات فقد صدقيته مع انطلاق الصواريخ نحو القدس، بعد فترة وجيزة من تهديد قائد «كتائب القسام» المجاهد ابو خالد الضيف.
هذه النقطة، وحدها، تمثل العنوان الرئيس للأزمة في اسرائيل. أزمة العقل السياسي والعسكري والاستخباراتي. أزمة «اللايقين» ازاء ما يمكن ان يصدر عن الطرف الآخر. وهي نفسها الأزمة القائمة مع لبنان منذ سنوات طويلة، وتفاقمت مع غزة منذ سنوات قليلة، قبل أن يتضح حجمها مع اندلاع المواجهة العسكرية الأخيرة.
أول الامر هو أن تبادر المقاومة الى الحرب. ومن أين؟ من قطاع غزة المحاصر بلقمة عيشه، وبالضغط العسكري والأمني والسياسي من غالبية حكومات المنطقة والعالم، والذي يواجه أزمات مستجدّة بفعل تفاقم الازمة الاقتصادية وانتشار جائحة كورونا، كما يواجه التحدي السياسي المتصل باستحقاق الانتخابات الفلسطينية. وهو القطاع الذي يضم حركات اسلامية تواجه أعقد حملة يشارك فيها كثيرون من دول العالم ونخبه.
لم يكن العدو يتوقّع بأن يبادر القطاع الى خطوة كهذه. ولو كان لديه ادنى تقدير، أمني او سياسي، لكان تصرف بطريقة مغايرة في ادارته لملف العدوان على القدس وأحياء المدينة العربية، ولكان وضع خطة عسكرية تمنحه هامشاً اضافياً. لكن القطاع بادر الى خطوة نوعية، جعلت العدو يخسر ما تميز به دوماً، وهو عنصر المباغتة الناجم عن تفوقه في المبادرة الى شن الحروب. يكفي ان يراقب العدو أداء المقاومة في غزة ليبدأ بحسابات مختلفة في بقية جبهات المقاومة، خصوصا جبهة لبنان التي تعلمت من درس غزة الاخير ما يكفي لاعادة النظر في امور كثيرة في شأن المواجهة مع العدو، لا تتعلق بالردع التقليدي، بل بالعقيدة القتالية القائمة على مبدأ الهجوم الدفاعي والهجوم الوقائي.
امام ما فعلته غزة، كان العدو أمام سيل من المفاجآت. لا يتعلق الامر، فقط، بقدرة المقاومة على اطلاق صليات كبيرة من الصواريخ تصل الى عمق الكيان. بل في أن رد فعل الفلسطينيين على إطلاق الصواريخ تجاوز التضامن الاحتفالي، كما يفعلون عادة، الى حدود الانخراط المباشر في مواجهة كسرت كل الرتابة التي قامت خلال عقد في الضفة الغربية وأراضي الـ48. لم يكن العدو يحسب ان يخرج جيل جديد من الفلسطينيين في تحركات شعبية تتخللها احتجاجات عنيفة ضد قوات الاحتلال. وخلال ايام قليلة، كانت «اسرائيل» أمام أزمة من نوع مختلف، هي أزمة انعدام القدرة على ضبط المشهد الفلسطيني في الضفة، حيث لا يمكن السلطة الفلسطينية ممارسة قمع استثنائي، وهي التي تعرف ان مشكلتها كسلطة متعاونة مع الاحتلال باتت اكبر من السابق. والحال نفسها انسحبت على مناطق الـ48 حيث فشلت كل القيادات التقليدية في كبح جماح التحركات الشعبية. اكثر من ذلك، فان العدو قرأ في ما حصل في مناطق الـ48 تمرداً يمكن ان يتطور الى ابعد مما يحسبه الجميع، وهو يشير صراحة الى فشل سياسة الاحتواء التي مورست خلال العقد الاخير، سواء من قوات الاحتلال نفسها او من قيادات فلسطينية غادرت الموقع النضالي نحو مربع التسويات المعبّر عن عجزها عن تحمل متطلبات المقاومة. وهي حال كثيرين من قيادات وقوى الـ48، ولا تقتصر على جماعة الحركة الاسلامية الجنوبية او القيادات المأسرلة، بل ان حال الركود اصابت قوى وشخصيات يسارية وقومية عربية بدت هزيلة الفكر والتقدير والقراءة ايضاً.
الحرب الاسرائيلية لم تتجاوز سقف العقاب وتدفيع الثمن لكن الكارثة ليست عسكرية فحسب بل سياسية ومساحتها العالم وليس فلسطين فقط
امام هذا المشهد، بدت اسرائيل امام السؤال الدائم: ما الذي يمكن فعله؟
كل كلام عن محاولات العدو تحقيق انتصارات عسكرية في قطاع غزة يعبّر عن قلة فهم لواقع المعادلات القائمة في فلسطين ومن حولها. وكل كلام عن قدرات خارقة للعدو تدفع فصائل المقاومة الى الانسحاب لا يزال اصحابه يعيشون في زمن مضى ولن يعود. وكل كلام عن قدرة العدو قلب المعادلة الميدانية لا يعبّر عن فهم لحقيقة ما تغير على الارض في السنوات السبع الاخيرة. ما يعني، عملياً، ان العدو لم يكن امامه سوى استراتيجية العقاب، واتباع سياسة تدفيع الثمن الباهظ للمقاومة نفسها، وللشعب الفلسطيني في كل مناطق انتشاره، من غزة التي ضُربت بقسوة، ولكن ايضا بطريقة تعكس حالة ردع ما موجودة في العقل القيادي الاسرائيلي، إلى الضفة الغربية حيث ضُرب المتظاهرون بقسوة هدفت الى قتلهم، الى جانب حملة الاعتقالات العشوائية الواسعة. اما في مناطق الـ48 فقد عمد العدو الى محاولة خلق توازن رعب من خلال ترك المستوطنين يتصرفون وفق منطق العصابات، بالتوازي مع عمليات اعتقال واسعة شملت كل الناشطين والمشاركين في الاحتجاجات.
منذ اليوم الثاني لاندلاع المواجهات العسكرية، بدت اسرائيل أمام معضلة توجيه ضربات استثنائية لكوادر المقاومة في القطاع. عنصر المباغتة الذي جاء هذه المرة من جانب القطاع، جعل بنك الاهداف العسكري والامني لدى العدو خاليا من غالبية نقاطه. وأظهرت المقاومة – رغم الخسائر التي اصابت قيادتي القسام وسرايا القدس – قدرة على تنظيم عملية اخلاء صامتة، واعادة تنظيم عمليات التواصل بين المجموعات المقاتلة. ونجح الفريق التقني في وصل كل من انقطع من خطوط التواصل السلكي، وفي تنظيم عمليات تحشيد المقاتلين في نقاط استعداد لاي مواجهة برية، وتنظيم عملية اطلاق الصواريخ بطريقة تحاكي توفير المخزون في مواقع قابلة للتحرك السريع، واستخدام ما كان قد نُصب قبل وقت طويل من اندلاع المواجهة. وما فشل العدو في وقف العمليات العسكرية الصاروخية الهجومية الا اشارة الى خلل كبير سينعكس أزمةً في العقل القيادي، العسكري والامني، لقوات الاحتلال. ولن ينفع هنا كل التعنيف الذي وجهه الاسرائيليون الى المصريين بحجة انهم لم يبذلوا جهوداً كافية لمنع تهريب المواد التي ساعدت المقاومة على بناء قوة غير مسبوقة. علماً أن العدو يعرف ان قدرات المقاومة المتنوعة لم تخرج كلها الى المعركة، وهي بقيت وتبقى رهن مسار ميداني يفرض نفسه على الجميع.
عملياً، لم يبق لدى العدو سوى التصعيد في معركة «تدفيع الثمن». وهي عملياً سياسة من دون طائل، لأنها لم تحقق هدفها في كبح جماح المقاومة وردعها ومنعها من مواصلة اطلاق الصواريخ. كما انها ليست ذات فعالية على صعيد تأليب القاعدة الاجتماعية للمقاومة ضدها. بل على العكس. فكما في كل مرة، وربما اكثر من المرات السابقة، ظهرت نتائج عكسية. إذ تفاعل الجمهور داخل فلسطين وخارجها، وفي العالم كله، مع مظاهر الاجرام الاسرائيلي، وهو ما ستكشف الايام المقبلة عن حجم تأثيره في قرارات حكومات وقوى وجهات كثيرة في العالم، بما في ذلك تلك التي ترفض منطق المقاومة أصلاً وفصلاً.
نحن الآن على عتبة مرحلة جديدة من المواجهة. سيخرج العدو معلنا انتصاره، كما في كل مرة. لكننا سنسمع، سريعاً، الصراخ السياسي وغير السياسي في كل مواقع الكيان ومؤسساته. وسيضطر قادة العدو، العسكريون والامنيون، للجلوس اسابيع طويلة في محاولة لفهم ما حصل، واستشراف كيفية التصرف في المرحلة المقبلة. اما المستوى السياسي، فلن تنفع كل مناوراته، إذ باتت أزماته الخارجية اكبر من الداخلية. ولمن لا يعلم، فان «اسرائيل» دولة تهتم كثيرا بالموقف الغربي من تصرفاتها، ويعرف قادة العدو ان الغرب لم يكن معجبا على الاطلاق بأداء العدو العسكري والسياسي. اما الحلفاء من العرب، الذين كرروا فعلتهم خلال حرب تموز العام 2006 بتحريض العدو على مواصلة الحرب، فسيشعرون بالنتائج الكارثية. ورغم انه لا يُتوقع تبدلات نوعية في مواقفهم، لكنهم سيتصرفون، غصباً لا طوعاً، بطريقة مختلفة