بقلم // جهاد أيوب
أنهك قلمي من الكتابة عن رحيل الاصدقاء الأحباب…
وانغمست روحي في جحيم ذاكرة مليئة بقصص لا تفرض حضورها إلا ساعة الغياب…غياب من تتعرف وتحب وتحترم!
واغتسلت عيني من بئر الحرمان لعدم مشاهدة من ارتاح لهم في هكذا ظروف “كورونية” إلى حين يصل خبر الموت…
موت من تعجب بهم، وتتناقش معهم حتى الاختلاف، وتودعهم إلى حين لقاء، ويكون الخبر قد رحلوا!
عايدة عبد العزيز…هي فنانة قديرة لا يصل إلى حضورها أحد، ولا يقترب من وهج تميزها أحد، ولا يلامس اشعاع موهبتها أحد وإلا احترق من يقترب بحجة التحدي!
نعم، وبكل ثقة، ووضوح، وكبرياء الحزن نقول أن الفن المصري فقد اليوم القديرة عايدة عبد العزيز، تلك النخلة الأصيلة التي لم تعرف غير الثمار الغنية بالعطاء، والقماشة المصرية المشغولة بتعب الصبر والانتظار حتى إعطاء الماء لكل من احتاجه.
وهي المصرية المصرية التي تجيد دور كل نساء مصر كفرس واثقة لا تعرف الانحناء…
عايدة لم تكن فنانة وكفى، ولم يولد الإعجاب من كونها مشهورة، بل صديقة، وصديقة جداً، ومحاورة من الطراز الرفيع، والأهم تمتلك جرأة إعطاء الرأي، كما تمتلك جرأة الإصغاء، والبوح بأن هذه المعلومة أو تلك لم تعرفها بعد!
مزهوة عايدة بما كانت عليه، وفخورة بما قدمته، وغنية بكل هذا الاطراء الذي تسمعه عن حسن الأداء الاختيار التشخيص…هي واحدة من قلة قليلة في الفن المصري يرفع لهن القبعة، هي تصل بجدارة إلى صف أمينة رزق، فاتن حمامة، سناء جميل، وسميحة أيوب، ونقطة على سطر الفن!
هي حالة لا تشبه غير عايدة، ولا تشبه من ذكرتهن بشيئ، فقط بالموهبة المتدفقة، هي كينونة مستقلة، وحاضرة في أن تجسد الأصعب، ومتمكنة في تجسيد ما لا يستطيع غيرها تجسيده، وهي كثيرة في الأدوار المركبة، وهي ممثلة تجيد تبدع تتفوق بأن ترسم دراما الابتكار والتفوق…
عايدة عبد العزيز من خامة الممثلات النادرات، ليس مهماً كيف ماتت، وكيف بدأت، بقدر أهمية ما قدمته من تميز يفوق الوصف في فن التمثيل الذي أصبح اليوم صورة عارية، ومغناجة، ومن غير هدوم، وصراخ، وسرعة بالنطق حتى لا أحد يفهم، وعلاقات مشبوهة!
عايدة عبد العزيز خرجت من شرنقة التمثيل فراشة تمتلك عاطفة جياشة، وشراسة الأقوياء، وجبارة في التحدي، صنفت مختارة الأدوار لحسن اختياراتها، والفنانة الصعبة لتجسيد الأدوار الصعبة، و السهل الممتنع لكونها تؤدي الأدوار المركبة لحدود الدهشة والإقناع كما لو كانت فعلاً هي كذلك.
لم تكن تؤمن بأن تنوع الأدوار يصيب نجوميتها بترهل، بل تؤمن بتأدية الدور بصدق ووفاء…وهذا ما جعلها في الصفوف الأولى دون منازع.
جلسنا معاً في أكثر من مهرجان خليجي وعربي وكانت هي المبادرة بمحبة وبطيب قل وصفه، وحينما التقينا في قاهرة الجميع كان باب منزلها لا يعرف الأفول …
كريمة في صداقتها، وكريمة في بوحها، وكريمة في الضيافة وفي الحوارات التي كانت تمتد معي إلى الفجر!
علمنا بانها اصيبت بمرض الزهايمر…هذا المرض لا يليق بسيدة قصر الدراما العربية، لقد أفقدها ذاكرة من ذهب، وبالتأكيد أقفلت الباب على تلك الذاكرة قبل اجتياح الزهيمر لمخازنها.
هي كانت زوجة الفنان القدير المخرج احمد عبد الحليم، لا أذكر مدحت مسرحية قدمها في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، ومع ذلك استمرت صداقتنا، وهو من عرفني على زوجته التي كان لنا شرف تمتين الصداقة…كانت أيام مشبعة بخير المحبة، وكان أحمد من الواقفين على ثبات الثقافة، وكانت عايدة صديقة صديقة صديقة لا تعوض ولن…لا بالفن ولا بالحياة …
وبرحيل عايدة عبد العزيز سقط الحجر الأخير في الدراما المصرية…التحدي كل يوم يكبر عند أحياء يقدمون الفن كأموات، والموجود والمقبل أصعب من رحيل الغياب الحاضر بما زرع وقدم…!