هيكيلة القطاع المصرفي ضرورة وأولوية إصلاحية فورية بدعة منصة صيرفة هل تعتبر بدعة ضلالة أو بدعة حسنة ؟
عانى لبنان وما زال يعاني من أزمة اقتصادية خانقة منذ العام 2019 وكانت ملامحها قد ظهرت قبل التاريخ المذكور بسنوات .فقد انهار سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى مستويات متدنية جداً، ووصل سعر الصرف الى أرقام غير مسبوقة وقد تسبب هذا الأمر بتغيير هيكلي في بنية المجتمع اللبناني وتسببت الأزمة بإضعاف القدرة الشرائية للمواطنين الذين وقع معظمهم في براثن الفقر المدقع.
بدايةً مع تفاقم حجم الأزمة الإقتصادية والمالية عمل مصرف لبنان على التعاطي مع الأسواق المالية بطريقة تقليدية هادفاً الى ضبط تدهور سعر الصرف ومراهناً أحياناً على النظام المصرفي وأحياناً على شركات الصيرفة المرخصة للمساعدة في ضبط السوق. رغم ذلك بقيت السوق المالية في حالة إضطراب وبقي سعر الصرف يتدهور والليرة اللبنانية تخسر من قيمتها الشرائية في ظل إنعدام الثقة بالكامل بالقطاع المصرفي ومشاركة بعض شركات الصيرفة في عمليات المضاربة. لذلك كان لا بد من إجراء غير إعتيادي يستطيع من خلاله مصرف لبنان أن يعود الى السوق متحكماً فكانت فكرة منصة صيرفة التي بدأ الإعداد لها عام 2020، وأطلق العمل بها في مايو 2021، بموجب تعميم أساسي عن مصرف لبنان يحمل الرقم 157، حيث ألزم التعميم المصارف كافة التسجيل على المنصة، متيحاً لها حرية التداول، بحيث تجري عمليات الصرافة لزبائنها وتسجلها على المنصة وفق سعر الصرف المحدد من المصرف المركزي.
عملياً عبر هذه المنصة أتاح مصرف لبنان شراء الدولارات من المصارف بسعر أدنى من المعروض في “السوق الموازية”، وكان الهدف من ذلك التحكم في القفزات الكبيرة التي كان يسجلها سعر صرف الدولار مقابل انهيارات الليرة اللبنانية من جهة، وتأمين حد معين من الدعم للتجار والمستوردين والشركات الكبرى الذين كانوا يحصّلون حاجاتهم من العملة الصعبة من السوق الموازية ما شكل زيادة كبيرة في الطلب على الدولار ورفع من سعر صرفه وفي نفس الوقت أعطى المصارف جرعة من العملات الناتجة عن العمليات عبر منصة صيرفة فساهم بتزويدها بجزء من نفقاتها التشغيلية .
سعى المصرف المركزي من خلال صيرفة إلى حصر التداول بالدولار على منصة رسمية واحدة، بهدف إعادة تنظيم السوق الذي كانت تقوده المضاربات والتلاعب من قبل الصرافين ( المرخصين وغير المرخصين) ، ما انعكس في مراحل معينة تقلّبات حادة في أسعار الصرف ونتائج كارثية على الإقتصاد اللبناني.
لعبت “صيرفة” دورا آخر، من خلال التعميم 161، الذي صدر في ديسمبر 2021، وينصّ على دفع المصارف لعملائها السحوبات النقدية التي يحق لهم سحبها، وفق سعر الصرف على منصة صيرفة.
المستفيد الأبرز من ذلك كانوا موظفي القطاع العام الذين أتيح لهم قبض رواتبهم بالدولار، وذلك في سياق تمويل مصرف لبنان للنفقات التشغيلية للدولة اللبنانية، التي كانت تسعى للمحافظة على القدرة الشرائية للموظفين من خلال مدهم بالدولارات، فيما هدف مصرف لبنان بالمقابل إلى ضخ مزيد من الدولارات في الأسواق، وسحب كميات كبيرة من الليرة اللبنانية المتضخمة بفعل طباعة العملة المستمرة.
إلا أن فارق السعر ما بين الدولار المعروض على “صيرفة”، وسعر الصرف في السوق الموازية حول فكرة “صيرفة” إلى أداة للربح السريع لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، على رأسهم التجار والمستوردين والمتمولين الذين أتيح لهم وصول غير محدود إلى المنصة، فضلا عن الأفراد الذين استفادوا من “الكوتا” المتاحة لهم، بحيث كان يتم شراء الدولارات من صيرفة بسعر منخفض ثم استبدالها من السوق الموازية بالليرة على سعر صرف مرتفع وتحقيق الأرباح من الفارق.
أخذ على آلية عمل منصة صيرفة أنها تفتقد للشفافية وأنها تعمل وفق أسس زبائنية لسترضي من خلال بعض العمليات الطبقة السياسية وكارتيلات المصارف وأصحاب النفوذ.
مع إقتراب إنتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وفي الإجتماعات المتتالية مع مسؤولين رسميين اقترح نواب حاكم مصرف لبنان المركزي في وثيقة اطلعت عليها رويترز، الخميس، إلغاء ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي المعمول به منذ فترة طويلة، والتحول إلى تحرير “مُدار” لسعر الصرف بحلول نهاية سبتمبر المقبل.
إنطلاقاً مما ذكر فإن إقتراح نواب الحاكم يقضي بإلغاء منصة صيرفة وإنشاء منصة إلكترونية جديدة بمساعدة من إحدى الوكالات المالية العالمية تحديداً بلومبرغ أو رفينيتف أو ربما غيرهم .هذه العملية برأيهم تتيح إعادة سوق القطع الى عملها السابق وتتيح إعادة إدخال المصارف في لعبة ضبط السوق بكل شفافية كون سيعاد إحياء غرفة التحكم بأعمال القطع التي ستعمل على ترك سعر الصرف يتمدد بحرية بعيداً عن آليات التحكم وتحديد السعر وغيرها من أساليب لا تتناسب مع عمل السوق الحرة.
قد يخسر موظفو القطاع العام المنافع التي وفرتهم لها منصة صيرفة وقد يصل الأمر بالمنصة الجديدة الى فك فكرة تقييد الإحتياطي الإلزامي والتصرف بما يوفره من مبالغ لقاء تأمين التوازن المالي للسوق وتمويل مصاريف الدولة التشغيلية.
بينما يشكل خبر التوجه للتخلي عن منصة صيرفة بارقة أمل لكثير من الطامحين لتوحيد سعر الصرف وتحريره ووقف المنطق الزبائني في بعض العمليات المالية، من أجل وقف النزيف الحاصل في احتياطات مصرف لبنان، يخشى آخرون من الآثار المالية المترتبة عن إمكانية التخلي عن المنصة، خاصة وأنها الضابط الوحيد لسعر الدولار
أمام هذا الواقع المرير والتخبط الحاصل نتيجةً لحلول إستحقاق شغور منصب حاكم مصرف لبنان وتعذر تعيين حاكم جديد هل باتت هيكلة القطاع المصرفي حاجة فورية الآن ؟ هناك ضرورة ملحة لإخراج المصارف من المحاصصة الطائفية بعد أن أصبح لكل طائفة مصارفها ونظامها المالي مع حتمية إعادة العمل المصرفي الى أسسه السليمة بتطبيق كافة المعايير الدولية المطبقة عالمياً تمهيداً لاستعادته الثقة المفقودة التي في حال استرجعت تغنينا عن منصة صيرفة والمنصات البديلة المقترحة التي وإن في لحظة ما إعبرت حل غير مثالي لأزمة تدهور سعر الصرف ولكنها من المؤكد أنها وبديلاتها تعتبر بدعة قانونية .
حكماُ لقد مثلت منصة صيرفة بدعة في العمل المالي والمصرفي في لبنان ولكنها ربما كانت بدعة حسنة.
د.بلال عدنان علامة
باحث إقتصادي وسياسي بيروت في 27/07/2023