ملف التحقيق في انفجار المرفأ… إزالة العِقد السياسية من طريقه تحتاج إلى معجزة!
مئات الأوراق يصرف قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار في ملف انفجار المرفأ الوقت في تنسيقها استعداداً للإفراج عن التحقيق في جريمة العصر، من دون الوصول إلى منفذ أو كوة تؤذن بأن هذا الملف سيستعيد أنفاسه في القريب المنظور، للأسباب نفسها التي واجهته منذ انطلاقته مع المحقق العدلي السابق فادي صوان، حتى ذهب الاعتقاد إلى أن الملف شأنه شأن الملفات ذات الطابع السياسي التي لا تزال مطوية منذ عقود سبقت انفجار المرفأ وما خلفه من ٢٢٠ ضحية و٦٥٠٠ جريح ودمار مخيف لأجزاء من العاصمة وتعطيل شريانه الحيوي الأبرز المطل على الشرق الأوسط، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
إلا أن التحقيق في ملف المرفأ يتمايز عن تلك الملفات بقطعه أشواطاً بعيدة راكمت هذا الحجم الكثيف من الصفحات رغم كف يد المحقق العدلي عنه غير مرة، ما انعكس تجميدا للتحقيق لسببين: الأول أن ينتهي على الطريقة التقليدية وينحصر الاتهام بقرار المحقق العدلي بمدعى عليهم عاديين، والسبب الثاني، محاصرة هذا التحقيق الذي لم تتوافر له حتى صورة من الأقمار الاصطناعية من شأنها إفادته أكثر عما حصل في الرابع من آب ٢٠٢٠.
هو الملف الأكثر مواجهة لعقبات قانونية وسياسية حالت دون بت المتراكم من طلبات الرد ودعاوى المخاصمة وشل عمل الهيئة الناظرة فيها.
بعد ستة أشهر من تسلم المحقق العدلي الأول القاضي فادي صوان التحقيق، قررت #محكمة التمييز في ١٨ شباط ٢٠٢١ نقل التحقيق في الملف إلى قاض آخر على خلفية طلب تقدم به الوزيران السابقان علي حسن خليل وغازي زعيتر للارتياب المشروع، لكونهما يتمتعان بحصانة دستورية، وذلك في أعقاب ادعائه عليهما وعلى الوزير السابق يوسف فنيانوس والرئيس السابق للحكومة حسان دياب. وبعد يومين عُين القاضي بيطار محققا عدلياً فاستمهل للاطلاع على الملف ووضع إستراتيجية تحقيقاته لنحو شهرين.
في أيلول ٢٠٢١ أصدر بيطار مذكرتي توقيف غيابيتين بحق الوزيرين السابقين النائب خليل وفنيانوس. وما لبثا أن تقدما بطلب رد المحقق العدلي للارتياب المشروع أيضا. وفي الشهر نفسه زار مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في “حزب الله” وفيق صفا قصر العدل والتقى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود والنائب العام التمييزي في حينه القاضي عويدات. ونقلت صحافية رسالة إلى القاضي البيطار ذكرت أنها من صفا، طلب منها أن تبلغ المحقق العدلي بما يأتي: “رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني وإذا ما مشي الحال رح نقبعك”. ولم يشأ القاضي بيطار مقاضاته مكتفياً بالول وفق ما نُقل عنه في حينه: “فداه وبيمون كيف ما كانت التطييرة منو”.
وفي كانون الأول ٢٠٢١ أوقف بيطار تحقيقاته بفعل طلبات لرده أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، فيما لم تأخذ مذكرتا التوقيف طريقهما إلى التنفيذ بعد إحالتهما من النيابة العامة التمييزية على قوى الأمن الداخلي في كانون الأول من العام نفسه، إلى أن أصدر المحامي العام التمييزي القاضي عماد قبلان أواخر ٢٠٢٣ قراراً بوقف تنفيذ المذكرة الصادرة في حق خليل، بعيداً من الضوء وقبل تقاعده.
وفي كانون الأول ٢٠٢٤ أصدر المحامي العام التمييزي
القاضي صبوح سليمان قراراً مماثلاً بوقف تنفيذ مذكرة التوقيف في حق فنيانوس. أعقب ذلك طلب لرده من مكتب الادعاء في نقابة المحامين.
نهج السلف
في إستراتيجية عمله، تابع بيطار نهج سلفه، متمسكاً بصلاحية المجلس العدلي في ملاحقة السياسيين. هذه المسألة شكلت نقطة التباين بين موقف الخلف والسلف وبين موقف النيابة العامة التمييزية منذ بداية التحقيق في القضية، بحيث اعتبرت الأخيرة أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو المرجع الصالح لملاحقتهم. ولم يتبدل موقفها بحلول الحجار مدعياً عاماً تمييزياً.
بعد تعليق التحقيق العدلي ١٣ شهراً بسبب سيل من دعاوى الرد والمخاصمة بوجه المحقق العدلي مع تعطل جلسات الهيئة العامة لمحكمة التمييز لفقدانها الأكثرية المُلزِمة للالتئام، أُقفل الطريق بوجه إعادة إحياء التحقيق في ملف المرفأ. وحالت الجهود التي بذلها رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس هذه الهيئة المقدمة أمام هذه الدعاوى والطلبات، سواء عبر وضع تشكيلات قضائية جزئية لملء الشغور في رئاسة غرف محكمة التمييز بقضاة أصيلين يشكلون الأعضاء الحكميين في هذه الهيئة وتعثر إقرارها لأسباب سياسية، أو محاولته سد الشغور فيها برؤساء الغرف المكلفين لرفض بعضهم كونهم قضاة غير أصيلين ويشغلون رئاسة غرف بالتكليف.
في تلك المرحلة برز اقتراح لوزير العدل هنري خوري لإحداث هيئة اتهامية تبت طلبات تخلية الموقوفين، والإتاحة لهذه الهيئة أيضاً بت دفوع شكلية يتقدم بها مدعى عليهم أمامها لتحديد المرجع الصالح لملاحقة السياسيين. طُوي هذا الاقتراح لعدم موافقة الأكثرية في مجلس القضاء الأعلى عليه، لعلة غياب النص القانوني في هذا المجال بالنسبة إلى التحقيق المحال على المجلس العدلي. وبين طي هذا الاقتراح وفشل استيلاد الهيئة العامة لمحكمة التمييز، استتبع ذلك ضغوطا مورست من خارج قصر العدل لاستمرار توقيف ١٢ مدعى عليهم في ملف المرفأ من دون وجه حق، لعدم بت طلبات تخليتهم بفعل تعطل التحقيق. ووصلت هذه الضغوط ألى تلميحات عبر الإعلام بإمكان فرض عقوبات دولية على قضاة، فيما يد المحقق العدلي مرفوعة في انتظار بت ما هو عالق من طلبات رد ودعاوى مخاصمة من الهيئة العامة لمحكمة التمييز.
وأعقب تلك الفترة اتصالات ولقاءات أجرتها السفيرة الأميركية السابقة دوروثي شاي مع وزير العدل خوري والقاضيين عبود وعويدات.
عودة وادعاء وتخلية…
فجأة، وبعد طول انقطاع قرر القاضي بيطار استئناف تحقيقاته في ملف المرفأ في ضوء دراسة قانونية استغرق إعدادها منه نحو شهرين، بحسب ما ذكر في حينه. وأبرز ما استند إليه عدم وجود نص قانوني يشير الى رد المحقق العدلي، فضلاً عن
ان شخص المحقق العدلي مرتبط بالقضية التي ينظر فيها، فإذا اقيل تنتهي القضية، وله الادعاء من دون طلب إذن مسبق، مستندا الى المادة ٣٥٦ من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي أخذت معياراً واحداً لإحالة الدعوى على المجلس العدلي من دون إعطاء أي اعتبار لهوية المرتكبين. على هذا الأساس عاد المحقق العدلي إلى ملفه وسط تنازع رأيين في قصر العدل: الأول رافض لهذه العودة من النيابة العامة التمييزية بسبب عدم بت الهيئة العامة ما أثير أمامها. وذهب الثاني إلى أن المجلس العدلي كفيل بالفصل في قانونية هذه المسألة.
ولزم بيطار مكتبه في قصر العدل. وأول قراراته كانت الادعاء في ٢٣ كانون الثاني ٢٠٢٣ على ثمانية مسؤولين: الرئيس السابق للحكومة حسان دياب والوزير السابق نهاد المشنوق والمدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا وثلاثة قضاة منهم النائب العام التمييزي السابق القاضي غسان عويدات. وعين مواعيد جلسات لاستجوابهم تباعا. وقرر في الوقت نفسه تخلية خمسة موقوفين هم المدير العام للجمارك سابقا شفيق مرعي ومدير العمليات السابق في المرفأ سامي حسين ومتعهد الأشغال في المرفأ سليم شبلي ومدير المشاريع في المرفأ ميشال نحول وعامل سوري في ورشة التلحيم أحمد الرجب، ومنعهم من السفر، رافضاً تخلية ١٢ آخرين موقوفين.
بعد أقل من ٤٨ ساعة على قرار بيطار استدعاء هؤلاء المسؤولين وتحديده جلسات لاستجوابهم، أصدر القاضي عويدات قرارا مضاداً ثلاثي الأبعاد بعدما تراجع عن تنحيه عن النظر في ملف المرفأ، بحكم قرابته من أحد المدعى عليهم النائب زعيتر، في موازاة استئناف بيطار تحقيقاته: البعد الأول تخلية جميع الموقوفين بمن فيهم بدري ضاهر، ومنعهم من السفر. وخالف هذا القرار مواطن يحمل الجنسية الأميركية توجه مباشرة من مقر التوقيف إلى المطار مغادراً ألى أميركا. والبُعد الثاني اعتباره المحقق العدلي مغتصب سلطة، مدعياً عليه بهذا الجرم ومانعا إياه من السفر. والبعد الثالث قراره إلى كل من الضابطة العدلية وموظفي قلم النيابة العامة التمييزية عدم تنفيذ أي إجراء أو تسلم أي قرار يصدر عن المحقق العدلي، ما جمّد التحقيق مرة أخرى، ولا يزال إلى اليوم أسير هذا القرار الذي شكل محور طلب من وكلاء مكتب الادعاء عن أهالي ضحايا المرفأ في نقابة المحامين غداة تسلم النائب العام التمييزي بالتكليف القاضي جمال الحجار مركزه، طالبين التراجع عنه بقرار يصدره هو.
بعد عام آخر من توقف عمل القاضي بيطار، عاد في آذار الماضي إلى مكتبه. وزار القاضي الحجار في مكتبه مهنئاً بتسلمه مهماته في النيابة العامة التمييزية. وأشيع إثر هذا اللقاء جو من التفاؤل ما لبث أن انكفأ بمرور الأشهر رغم سلسلة اجتماعات عقدها الرجلان، من دون التوصل إلى نتيجة عملياً من شأنها الإفراج عن التحقيق. فالقاضي الحجار الذي تسلم مركزه حديثاً وجد نفسه أمام عبء ملف المرفأ المليء بتعقيداته السياسية والقانونية غير المسؤول عنها، بحسب مصادر قضائية، وموضوعة نصب عينيه وتنتظر حلاً. أما طرحه، فوصفته مصادر قانونية مطلعة بالحل الوسط، وخلاصته تفريق الملف بين المدعى عليهم العاديين والمدعى عليهم السياسيين والأمنيين والقضائيين، ليحاكم كل منهم أمام مرجعيته المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء السياسيين، والأمر نفسه بالنسبة إلى مرجعية ملاحقة المسؤولين القضائيين والأمنيين.
لم يلاقِ هذا الطرح تجاوبا من المحقق العدلي، وهو غير قابل لأي من طرق المراجعة في هذا المجال، ولاسيما بعد ما جرى إعلانه عن اجتيازه شوطاً بعيداً في قراره الاتهامي الذي بُني في ضوء الادعاء العام في هذه القضية لجهة الإهمال المسند إلى هؤلاء المسؤولين في استمرار وجود النيترات في العنبر رقم ١٢ في المرفأ. وموقفه لهذه الجهة معروف منذ تعيينه محققاً عدلياً وبدء تحقيقاته، ولم يحِد قيد أُنملة عن اعتباره المرجع الصالح لملاحقة المدعى عليهم من المسؤولين، مثلما لم يُفكر يوماً في التخلي عن مهماته رغم كل ما جرى إشاعته في أوقات سابقة عن انه ينحو إلى الاستقالة، بل هو مصمم على المضي حتى الخواتيم بإصدار قراره الاتهامي .
أفق مسدود
وشمل الطرح خلال اجتماعات القاضيين الحجار وبيطار استثناء القاضي عويدات من سائر المسؤولين المدعى عليهم عملا بأحكام المادة ٣٥٤ من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي ترعى أصول ملاحقة النائب العام التمييزي، وتنص على أن “يُعين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء قاض لا تقل درجته عن السابعة عشرة للقيام بمهمات النائب العام التمييزي لتولي الملاحقة في الجريمة فقط”، في حال “ارتكب جريمة من نوع الجنحة او الجناية خارج وظيفته أو أثناء قيامه بها أو في مناسبتها
في المُحصلة لا يزال الأفق مسدوداً أمام استئناف التحقيق في ملف المرفأ عشية الذكرى الرابعة لهذه الكارثة. والاتجاه كما يبدو لإبقاء المراوحة على حالها بما في ذلك عدم بت طلب جهة الدفاع التراجع عن قرار حجب تنفيذ أي قرار يصدره المحقق العدلي. وفي السياق، تشير المصادر القانونية المطلعة إلى أن صدور قرار كهذا واجب قانوني ليمتثل بموجبه موظفو قلم النيابة العامة التمييزية والضابطة العدلية. واستطراداً، تؤكد المصادر أن الأمور في ملف المرفأ لن تستقيم إلا بعد انتخاب رئيس للجمهورية وانتظام عمل المؤسسات بما فيها مؤسسة القضاء. وفي نظره لن تخرق هذا الواقع إلا معجزة.
المصدر : النهار