“رفع السرية” سيغربل ما حصل منذ اندلاع الأزمة… هل المحاسبة ممكنة لكل المرتكبين؟
ليبانون ديبايت- باسمة عطوي
منذ إقرار قانون السرية المصرفية في 24 نيسان الحالي، تتوسع النقاشات بين المصرفيين والحقوقيين حول مدى فعاليته في المحاسبة على الجرائم المالية التي ارتُكبت قبل 17 تشرين 2019 من قبل بعض المصرفيين والنافذين سياسيًا، على اعتبار أنها “تحتاج إلى اجتهاد قانوني واضح ومتين لتصنيفها كجرائم، وأن هذا المسار لا يشمل إلا من كان يملك نفوذًا ويمكن اتهامه بأنه استفاد شخصيًا على حساب سائر المودعين”.
يستند المصرفيون في افتراضهم أن المحاسبة غير ممكنة، على اعتبار أنها تطال “بعض المصرفيين والأشخاص المعرّضين سياسيًا، وهذا مفهوم مطّاط وفضفاض، ما سيجعل المسألة معقدة، ويتطلب أن تتخذ جهة قضائية مختصة قرارًا بالملاحقة”. أما الحقوقيون فيعتبرون أن “المحاسبة ممكنة استنادًا إلى عدة قوانين، منها تعديلات نصّ عليها قانون السرية المصرفية والذي قضى بتعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف، القانون 189/2020، الذي يفرض على موظفي الدولة والمعرّضين سياسيًا، تقديم بيان عن كل ما تحويه ذمتهم المالية من أموال منقولة وغير منقولة في لبنان والعالم. القانون الجديد حول مكافحة الإثراء غير المشروع رقم 189/2020، والذي اعتبر أن جرم الإثراء غير المشروع لا يسقط مع مرور الزمن. القانون 44 الصادر في 24/11/2015 الخاص بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، القانون 160/2011 والذي ينص على المعاقبة على سوء استعمال المعلومات، بالإضافة إلى تطبيق المنطق والعدل والمساواة وفقًا للأحكام الدستورية، وتحديدًا المادة 7 والفقرة (ج) من مقدمة الدستور اللبناني، التي تنص على أن كل اللبنانيين سواسية أمام الموجبات والأعباء”.
ضاهر: كشف الجرائم المالية ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية
يشرح الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، المحامي كريم ضاهر، لموقع “ليبانون ديبايت”، أن “هناك من يحصر رفع السرية المصرفية بالفوائد الزائدة والتوزيعات التي تظهر بواقع الحال”، ويرى أنه “من الممكن كشف الجرائم المالية قبل وبعد 17 تشرين 2019، في حال توفرت الإرادة السياسية لذلك وتمّ تطبيق القوانين المرعية الإجراء دون اجتزاء أو تقاعس. لذلك يجب مقاربة الموضوع من شقين، الأول هو الجرائم المالية، والثاني هو التحويلات بعد 17 تشرين 2019، وهما موضوعان مختلفان”، لافتًا إلى أن “كيفية اكتشاف الجرائم المالية سهل ويتم من خلال الكشف على الحسابات. وفي ما يتعلق بالموظفين العامين في الدولة من فئة رابعة فصاعدًا، يمكن الإتيان بأسمائهم ومقارنة حساباتهم المصرفية، فضلًا عن أملاكهم العقارية وسواها مع التصريح عن الذمة المالية الذي سبق وقاموا به وفقًا للقانون 189/2020، والذي يفرض عليهم تقديم بيان عن كل ما تحويه ذمتهم المالية من أموال منقولة وغير منقولة في لبنان والعالم. عندها يمكن للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مقارنة هذا التصريح، بالتعاون مع هيئة التحقيق الخاصة وهيئة الرقابة على المصارف، فإذا تبين أن الحسابات المصرفية لا تتناسب مع ما تمّ التصريح عنه من قبل موظفي ومسؤولي الدولة، فهذا يعني أنه جرم مالي وإثراء غير مشروع، ويمكن أن يتضمن إما عملية اختلاس أو صرف نفوذ أو غير ذلك، مما تلحظه وتُعاقب عليه القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، هذا مع العلم أن القانون الجديد رقم 189/2020 قد اعتبر أن جرم الإثراء غير المشروع لا يسقط مع مرور الزمن”.
الحسابات المالية يكشفها “اعرف عميلك”؟
يضيف: “في ما يتعلق بالحسابات المالية، هناك نظام “اعرف عميلك” الذي يتعين بموجبه الإفصاح عن مصدر الأموال وتبريرها، فمن خلال هذا النظام يمكن التحقق من مصدر الأموال، والتأكد مما إذا كانت الأموال المودعة من مصدر مشروع أو أنها ذات صلة بأعمال محظورة، ومنها الاتجار بالمخدرات والسلاح والبشر والاحتيال والتهرب الضريبي وسواها، ومن خلال ذلك يمكن الكشف عما إذا كانت هذه الودائع متأتية أيضًا من عمليات تبييض أموال أو تغطية على جهة مشبوهة”، موضحًا أن “التهرب الضريبي هو جرم مالي أيضًا، ويمكن أن تُقام ملاحقات بحق مرتكبه ضمن فترة مرور الزمن المحددة بخمس أو سبع سنوات حسب الحالة، ويُضاف إليهم تعليق المُهل خلال السنوات الأخيرة، لذلك لا يوافق على الرأي القائل بأن رفع السرية المصرفية لن يُمكننا من معرفة الجرائم المالية التي وقعت قبل 2017”.
جرائم التحويلات المالية وإساءة الأمانة
يشرح ضاهر أنه “بالنسبة للتحويلات التي حصلت ما قبل وبعد 17 تشرين 2019، هناك جرائم مالية يمكن أن يكون قد ارتكبها بعض المصرفيين، الذين كانوا على علم بأن الانهيار المالي آتٍ ووشيك في مصرفهم، وأن لا قدرة لهم على معالجة الأوضاع، فإذا قاموا بتحويل أموالهم الخاصة قبل 17 تشرين، هناك ما يسمى الفترة المشبوهة والتي تمتد إلى ما قبل 18 شهرًا من وقوع الانهيار أو بالأحرى التوقف عن السداد”، لافتًا إلى أنه “عندها يمكن اتهامهم بالعديد من المخالفات والشبهات في حال توفر الأدلة لذلك، ومنها على سبيل المثال الإفلاس التقصيري أو الاحتيالي والغش، واستغلال المعلومات المميزة (insider trading) وإساءة الأمانة، لأنهم أنقذوا أموالهم في الوقت الذي كان مصرفهم متوقفًا عن الدفع، وهذه كلّها جرائم يُعاقب عليها قانون العقوبات، ومشمولة بالقانون 44 الصادر في 24/11/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، كحالات جرمية تؤدي إلى تبييض الأموال”. ويشير إلى أنه “في ما يتعلق بالأدوات المالية، أي السندات والأسهم التفضيلية، إذا كان المصرفيون على علم بأنها ستفقد من قيمتها وباعوها قبلًا لأنهم كانوا على علم بأن الانهيار مُقبل، فهذا يسجل مخالفة لقانون 160/2011، والذي ينص على المعاقبة على سوء استعمال المعلومات، وهذا جرم مالي”.
في ما يتعلق بالأموال التي تحولت بعد 17 تشرين، يرى ضاهر أنه “يجب التمييز بين الحالات. الحالة الأولى هي السياسيين (الذين كان يقتضي عليهم استصدار التنظيمات والقوانين ولم يفعلوا) والمصرفيين (المتوقفين عن السداد) الذين حوّلوا أموالهم بعد 17 تشرين 2019، فهم أشخاص في موقع المسؤولية ومنعوا المودعين من الحصول على أموالهم، ولا يحق لهم تحويل أموالهم إلى الخارج بعد 17 تشرين، لذلك يمكن تصنيف ما قاموا به ضمن صرف النفوذ، وإساءة استعمال المركز، وإساءة الأمانة”، مشددًا على أنه “بعد صدور قانون رفع السرية المصرفية، هناك سياسيون ومصرفيون اعتبروا أنه لا يمكن محاسبة هذه الفئة، وأن الأمر غير ملحوظ في القانون لجهة المخالفات والتجاوزات، لكن هذا منافٍ للحقيقة، للأسباب التي تم ذكرها، كما لأسباب سوء استعمال السلطة والنفوذ والمسؤولية والمركز وإساءة الأمانة”.
المواطنون العاديون يمكن محاسبتهم أيضًا
في ما يتعلق بفئة المواطنين العاديين، يوضح ضاهر أنه “حين حصل الانهيار لم يكن هناك قانون للكابيتال كونترول، فتمّ تحويل أموال لمواطنين إلى الخارج بعد تقديم طلب للمصرف، بهدف الطبابة والتعليم أو دفع دين أو سواهم أو لأسباب أخرى لم يكن القانون حظرها، وهؤلاء لا يمكن مقاضاتهم أو تحميلهم المسؤولية. أما بعد صدور أولى التدابير الرسمية – التنظيمية من قبل مصرف لبنان في 9/4/2020، أي بعد انقضاء أكثر من ما يقرب من ستة أشهر على اندلاع الأزمة، عندها يمكن اعتبارهم بالتضامن والتكافل مع المصارف، مسؤولين عن مخالفة الأنظمة ومحاسبتهم باسترداد الأموال المحوّلة، لأن مصرف لبنان أصدر التعميمين 150 و151، وكذلك التعاميم اللاحقة ومنها 158 و165، والذي يُعد اعترافًا ضمنيًا بأن هناك قيودًا على السحوبات والتحاويل من المصارف”، جازمًا أنه “قبل هذا التاريخ أي من 17/10/2019 وحتى 9/4/2020، لا يمكن محاسبة الأشخاص العاديين لغياب أي مشرّع قانون يمنع ذلك، أما بعد 9/4/2020 فهو مخالفة من قبل المصرف والمودع لتعليمات مصرف لبنان لأن التعاميم نُشرت، هذا مع العلم بأنه قد تمّ الطعن بالكثير من هذه التعاميم لمخالفتها القانون، ولا سيما التعميم 151 الذي صدر قرار عن مجلس شورى الدولة بتجميد نفاذه، إلى حين البت بقانونيته”.
ورغم ما تقدم من مبررات وأسباب قانونية وتمييز في المراحل، يتطرق ضاهر أيضًا إلى فترة 17 تشرين 2019 وما بعدها، بالنسبة لتحويل الودائع والأرصدة من قبل البعض، بينما كان البعض الآخر محرومًا من التحويل أو السحب، لافتًا إلى أن “هذه الفترة، بالرغم من أن لا قوانين خاصة تحكمها، يقتضي بالرغم من ذلك تطبيق المنطق والعدل والمساواة وفقًا للأحكام الدستورية، وتحديدًا المادة 7 والفقرة (ج) من مقدمة الدستور اللبناني، التي تنص على أن كل اللبنانيين سواسية أمام الموجبات والأعباء. لكن على أرض الواقع، هناك لبنانيون حُجزت ودائعهم وآخرون تمكنوا من سحبها إلى الخارج، وبما أننا في دولة مكتملة العناصر، يجب قياس الوضع على قدم المساواة كما كان قبل 17/10/2019، من دون معاقبة الناس لأنه ليس هناك قانون ينص على ذلك، ونقول بضرورة استرجاع الأموال التي خرجت منذ 17 تشرين، وإعادتها إلى القطاع المصرفي ليتساوى الجميع، وهذا ما عملنا عليه كنقابة محامين”.
ويختم: “رفع السرية سيسمح بإنجاز غربلة لكل ما حصل منذ اندلاع الأزمة، لنتمكن من معرفة حقيقة التصرفات، وكشف من يتصرف بازدواجية حسب مصالحه الشخصية، وإحقاق الحق وإعادة العدالة”.